دولة نبش القبور

2018.08.22 | 10:08 دمشق

يصرّ نظام الأسد على إظهار وحشيته في كل مناسبة، أو يبتكر مناسبة إن ضنّ الحال وافتقر المشهد، ليستمرّ في بث الرعب وتأطير صورة الحكم المطلق الذي لا يجوز أن يُقابل إلا بالرضوخ والتلبية، ولعل آخر تجليات وحشيته كانت في بلدة زملكا بريف دمشق، حينما عمد الأسبوع الفائت إلى نبش قبور شهدائها الذين قضوا في مجزرة الكيماوي الشهيرة، التي مرت ذكراها الخامسة أمس، مصادفة هذه المرة أول أيام عيد الأضحى، لتتضاعف الغصة وتتجدد المجزرة بسرقة الموتى بعد سرقة الحياة منهم! 

وإنني أخالف من أعطى النظام مسوّغاً سياسياً وقال إن الفعلة تلك إنما ترمي إلى تضييع الأدلة وطمس معالم الجريمة، فالتحقيق الدولي فيها تم وانتهى في العام 2014، وأصبحت أوراق القضية وقرائنها بين يدي المؤسسات ذات العلاقة في الأمم المتحدة، والحقيقة أن نظام الأسد ما أراد إلا الترويع والانتقام والتعبير عن حقده وهمجيته ليظهر كعصابة كما هي حقيقته، ولعلّ التوقيت الذي اختارته عصابة الأسد لتنفيذ تلك الجريمة يشي بالكثير، فبعدما أخرج أولئك الأبرياء من الحياة، يريد زجّ أهليهم في هوّة سحيقة من الألم، فلا زيارة لقبور الأحبة بعد اليوم، ولا أمل لأم بأن تزرع عرقاً أخضر في تربة ابنها الشهيد، وكأنّها عقوبة ما بعد الموت، يلاحق بها زبانية الأسد من أرادوا الانتصار للحياة ليس إلا.   

وإنني أخالف من أعطى النظام مسوغا سياسياً وقال إن الفعلة تلك إنما ترمي إلى تضييع الأدلة وطمس معالم الجريمة، فالتحقيق الدولي فيها تم وانتهى في العام 2014

وتعدّ جريمة نبش القبور من أخسّ وأوضع ما يقترفه المجرمون، وهي وإن كانت حاضرة في تاريخنا العربي والإسلامي، كما تروي كتب التاريخ، فإنها لم تصدر عن دولة أو نظام حكم مستقر، بل عن عصابات طائفية وعسكر لم تشفِ دماء الخصوم غليلهم، فشحذوا أحقادهم ورووها بهتك ستر الموتى وصلب الجثث وجلدها.

ويعيد نظام الأسد سيرة الطائفيين الحاقدين، فينفي عن نفسه صفة "الدولة" التي يزعمها، ويأخذ جبهته الصحيحة كميليشيا طائفية، تشبه تماماً الميليشيات الطائفية المستوردة من لبنان والعراق وإيران، والتي سوغت تدخلها ضد الشعب السوري والفتك به، بحماية المراقد المقدسة، تلك التي تضم أمواتاً، أو رموز أموات، ذلك أن تلك الميليشيات معبّأة بالحقد الطائفي والتاريخي، وتؤمن بسردية نبش القبور أكثر من إيمانها بواقع وضرورة التعايش الوطني، الذي لا ترى نفسها فيه إلا حاكماً بأمر ربها، شأنها في ذلك شأن أتباع "يهوه" المُختارين صفوةً فوق الناس أجمعين.

وإن سيرة آل الأسد في نبش القبور ليست بالجديدة أو الطارئة، فإليهم أيضاً تنتمي عصابات حفر القبور ونبشها بحثاً عن الذهب والكنوز، كما هو الحال مع الآثار، ولعلَ تاريخ رفعت الأسد وعدنان الأسد بغنى عن الشرح والتفصيل في هذا الباب، أما النبش من أجل التشفّي والترويع، فله أيضاً سجل حافل لدى "جيش الأسد" الذي سبق واستعرض أمام الكاميرات جماجم جثث في مناطق سيطر عليها شرقي حلب، كما سرق 20 جثة من حمص بعد توقيع أهلها هدنة عام 2015، ووضع مكانها قمامة في القبور!..

وكذا يمضي السوريون في قيامتهم، يكتبون مصائرهم بدمائهم وتضحياتهم، لا تجرّهم الأحقاد ولا تحرف بوصلتهم طائفية عمياء

واهماً؛ يعتقد نظام الأسد أنه يمكن أن يمضي قدماً في نبش الصدور وكتم إراداتها، هناك دفن الطاغيتان - الأب والابن- مطامح السوريين لأربعة عقود، وكان عسكرهم يفتّش النوايا ويلاحق الحالمين، إلا أن زمن الهزيمة والخوف ولى إلى غير رجعة، وكأني بالسوريين في معركة كرامتهم يتمثلون قول أسماء بنت أبي بكر لابنها عبد الله بن الزبير عندما أبدى خشيته من الصلب والتمثيل بجثته إن وقع قتيلاً في الحرب: "لا يضرّ الشاة سلخها بعد ذبحها.. فامضِ على بصيرتك".. وكذا يمضي السوريون في قيامتهم، يكتبون مصائرهم بدمائهم وتضحياتهم، لا تجرّهم الأحقاد ولا تحرف بوصلتهم طائفية عمياء، وإن تعرجت المسالك واِلتوتْ بعض الشعاب، فإن السبيل إلى سوريا الكرامة لا يخطئه قاصد ولا يعدمه عنيد.. سوريا التي لا تُنبش فيها صدور ولا تُنتهك قبور.