السيادة كمفهوم قانوني وسياسي

2021.08.11 | 06:34 دمشق

في مقدمة كتابه "السيادة كمفهومٍ قانونيٍ وسياسي" كتب ديتر غريم القاضي الألماني السابق، وعضو الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم "أرى أن الكتاب يسهم في توضيح سؤال ما إذا كان مفهوم السيادة في أوائل القرن الحادي والعشرين لا يزال له هدف في العالم الواقعي، ويؤدي وظيفةً تبرر الاستمرار في استخدامه".

للحديث عن السيادة بمفهومها القانوني والسياسي، لابد من الاستهلال بالحديث عن المفهوم، الذي بقي مفهوماً متغيراً وفق تغيرات الزمان والمكان، والذي يحدد ماهية السيادة، وهل هي سلطةٌ مجردةٌ، أم سلطةٌ محسوسة، وهل هي قابلة للتجزئة؟ وهل يجب أن تجتمع حيازتها وممارستها بيدٍ واحدةٍ أم ينبغي فصلهما، والسؤال الأكثر جدارة "ما إذا كان لمفهوم السيادة دورٌ يؤديه أصلاً، لاسيما بعد انتشار الشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات، والشركات الاستثمارية العملاقة، والنماذج المتطورة من المعاهدات الدولية والإقليمية، التي تجعل من حق مؤسساتٍ عالميةٍ التدخل في الرقابة على الأسلحة البيولوجية والاستراتيجية، وتفرض أشكالاً متعددة من صيغ التتبع والإشراف والتدخل، في العديد من تفاصيل الصناعة والتجارة والممرات المائية والمياه الإقليمية، والدور الخطير الذي يلعبه صندوق النقد الدولي في التدخل المباشر بالدول المقترضة، كذلك الشركات النفطية العالمية وشركات المعادن وشركات التكنولوجيا المتطورة وغيرها، مما يصعب حصره، كل هذا يفقد مفهوم السيادة دوره أو يغير من ماهيته.

ولا يفوتنا أن نتذكر أن مفهوم السيادة أصلاً، إنما نشأ وتبلور في ظل ظروفٍ ومصالح وصعود أفكار جديدة، ما لبثت أن جرى عليها الكثير الكثير من التعديل والتغيير، مما جعل صمود المفهوم أساساً أمراً بالغ الصعوبة، وربما يعاكس مجرى التاريخ وسيولته، الأمر الذي يعني بالضرورة إعادة تشكيل مفهوم السيادة وصياغته على نحوٍ ملائم، بحيث يلبي هذا المفهوم الجديد الحاجة العميقة، في حماية الهوية السياسية والثقافية معاً، ويكفل استقلالية القرار السياسي الذي يشكل التمظهر الأوضح للسيادة الوطنية.

لقد شهد العالم تطوراً ملحوظاً لمفهوم السيادة عبر القرون، بدءاً من القرن الثالث عشر في فرنسا وإنكلترا، وكان للصراع بين الملكية الحاكمة آنذاك كسلطةٍ مكانيةٍ، وبين الكنيسة التي بقيت تكافح في بسط سلطتها الزمانية على الملك والشعب بآن واحد، بغية الوصول إلى الحكم المطلق، والتي كانت تعني يومها سلطة اتخاذ القرار النهائي، والمسؤولية الوحيدة، ولم تكن تعني أبداً من الوجهة القانونية على الأقل أن الحكم المطلق هو حكم فوق القانون، وإن مورس ولسنوات طويلة بهذا المعنى تجاوزاً.

واليوم في عصر التغيرات الحادة والمتسارعة، بشكل تصعب متابعتها والتكهن بمساربها الجديدة، لن نفاجأ بوجود من يعلنون موت مفهوم السيادة، واستحالة التوفيق بينه وبين الأفكار الراهنة عن الحكم السياسي الذي يتمتع بالشرعية، لكن على هؤلاء المنكرين أن يفكروا في الاحتمال الوارد بقدرة المفهوم على التكيف مع الظروف الراهنة والقيم المتغيرة، دون أن يفقد جوهره ووظيفته.

مع تطور أنظمة الحكم وظهور دولة القانون، يمكننا القول إنَّ انتزاع السمة الشخصية من السيادة قد بلغ ذروةً غير مسبوقةٍ تاريخياً

تبقى المهمة المناطة بالعلماء الذين سلكوا المسار الثاني "الإبقاء على مفهوم السيادة وتطويره" عالية الإشكالية وبالغة الصعوبة، لأنهم مطالبون بالتمييز بين المفهوم وموضوعه، فالموضوع والمفهوم ليسا منفصلين كلياً ولا هما بالمتطابقين، حيث يقع الموضوع على مستوى الظروف الفعلية، بينما يقع المفهوم في حيز الواقع المتخيل.

ومع تطور أنظمة الحكم وظهور دولة القانون، يمكننا القول إنَّ انتزاع السمة الشخصية من السيادة قد بلغ ذروةً غير مسبوقةٍ تاريخياً، ومع اكتمال تشكل الدولة حيث صارت الديمقراطية هي المبدأ الوحيد الذي تتحقق به الشرعية في الحكم، صارت السيادة للشعب الذي انعكست سيادته عبر صناعة الدستور الذي يستفتى عليه، بينما يمارس سلطته عبر مفوضين وممثلين له.

إن أهم وظيفة للسيادة تكمن اليوم في حماية استقلالية القرار الديمقراطي، لمجتمعٍ متحدٍ سياسياً حيال النظام الذي يناسبه

هذا الخلاف الواضح في اتجاهات فقهاء القانون والسياسة، خلق اتجاهات غير منسجمة، داخل الدولة الفيدرالية الواحدة، وداخل الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر، الأمر الذي قدم نموذجاً جديداً للسيادة المجمعة أو المشتركة، ثم ما لبث أن طورها ليكون الاتحاد كيانا يعمل بشكلٍ مستقلٍ عن دوله الأعضاء، ويحتفظ بتأثيره الملزم لها.

يختم "ديتر غريم" كتابه ومناقشته لاتجاهات النظر المختلفة حول مفهوم السيادة بخلاصته الموجزة: "إن أهم وظيفة للسيادة تكمن اليوم في حماية استقلالية القرار الديمقراطي، لمجتمعٍ متحدٍ سياسياً حيال النظام الذي يناسبه، ولا يعوق هذا المفهوم المتنامي للسيادة، الإيفاء بالمهام العامة بصورةٍ غير وطنية، تتجاوز قدرات الدول منفردة، فضلاً عن الزيادة في تقنين السلطة العامة الممارسة دولياً. وبما أنه لا نموذج مقنع لديمقراطيةٍ عالمية، يجب ألا ينضب معين الشرعية والإشراف الديمقراطيين على مستوى الدولة، ذلك أنَّ السيادة اليوم هي التي تحمي الديمقراطية".