"الأنفال" وصدام حسين بعين ابنته

2021.02.23 | 00:01 دمشق

في 22 شباط عام 1988 بدأت القوات العراقية بقيادة علي حسن المجيد القائد الحزبي للمنطقة الشمالية حملة ضد الكرد المناوئين للحكومة، سيطلق على الحملة "عملية الأنفال" تيمناً بسورة الأنفال التي نزلت بعد معركة "بدر" والمفردة تعني الغنائم. الأنفال عملية استمرت لأكثر من سبعة شهور وكان مسرحها المناطق الكردية، وكانت تهدف بحسب الإعلام العراقي وقتذاك إلى اجتثاث المتعاونين مع العدو الإيراني. قامت بتنفيذ الحملة قوات الجيش والحرس الجمهوري والقوات الخاصة، بالإضافة إلى كتائب ما كان يُعرف بالدفاع الوطني المكوّنة من أكراد المنطقة ممن كانوا يُدعون "الجحوش" في الأوساط الشعبية الكردية.

يشير تقرير لمنظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى "أن ما يصل إلى 100 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، لقوا حتفهم في عمليات تطهير عرقي ممنهجة" خلال عملية الأنفال

تردد كثيراً تلك الفترة، اسم جلال طلباني زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني التي تتهمه السلطات بالتعامل مع إيران خلال الحرب ولهذا ابتدأت الحملة من محيط السليمانية. لن أدخل هنا في السجال السياسي حول وجاهة الاتهام، وهذا ليس هرباً من تسجيل موقف، بقدر ما هو التأكيد على أن النقاش لا يجب أن يكون هنا، فحتى للخيانة هناك قاعات المحاكم وليس حملة إبادة جماعية طالت أكثر ما طالت المدنيين.

يشير تقرير لمنظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى "أن ما يصل إلى 100 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، لقوا حتفهم في عمليات تطهير عرقي ممنهجة" خلال عملية الأنفال التي نُفّذت على ثماني مراحل، وأدّت لإزالة ألفي قرية كردية من الوجود. معظم المصادر الكردية تشير إلى 180 ألف ضحية و4000 قرية دمرت تماماً. وسوف يكون مفهوماً في مثل تلك الوقائع أن نسمع أرقاماً أعلى بكثير، نظراً لما يحمله الرقم الأعلى من دلالة على مبدئية أكثر جذرية، حسب وهم أصحاب تلك الأرقام.

قبل ذلك بخمس سنوات، وفي عام 1983، قامت مخابرات وجيش صدام حسين باعتقال حوالي 8 آلاف من منطقة بارزان في إقليم كردستان، نقلوا جميعاً إلى الصحراء جنوب العراق، ولم يظهر أي منهم بعد ذلك أبداُ. تذكر تقارير محلية أنهم قتلوا جميعاً ودفنوا في مقابر جماعية.

في مقابلتها التي توزعت على ست حلقات على قناة العربية خلال الأسبوع الماضي، ستقول رغد صدام حسين "أنا ما رُبيت ببيت يقتل شعبه لأنه أخطأ. نحن لا نجيّش الجيوش على شعبنا ونبيد كل منطقة بمنطقتها كما فعل آخرون. من يخطئ بحق القانون العراقي يعاقب وفقاً للقانون العراقي". عبارات لافتة توردها رغد ابنة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي أعدمته القوات الأميركية بعد محاكمة وصفها الحقوقيون أنها شكلية. بطلاقة لافتة، تحدثت الابنة المكلومة بأبيها، وقبله بزوجها حسين كامل المجيد، الذي قتله أبوها مع أخيه زوج ابنته الأخرى. تحدثت بروحيّة من يصدّق نفسه، ويدعو الآخرين إلى تصديقه. وكان علينا نحن الجمهور الذي تابعها أن نصل إلى النتيجة التي تتوافق مع رؤية ابنة لأبيها. الابنة المغرمة بالقاتل والقتيل، حيث جمعت ما لا يُجمع.

كثير من المتابعين ناقشوا توقيت هذا الظهور، والحاجة إليه، والسؤال ما إن كان ينطوي على تلميع الديكتاتور من أجل تقديم ابنته كوريثة لوطنيته التي طالما مرت على ذكرها في المقابلة، والوطنية لم تكن، بحسب رغد، حكراً على صدام الأب وإنما انسحبت على الإخوة عدي وقصي والأعمام ورفاق الوالد "أبطال العراق" بحسب وصفها. شخصياً، لم أستطع وأنا أستمع للمقابلة تجاوز أنني سوري عاش في حقبة الأسدين، وما يستتبع هذا من تخيّل بشرى الأسد تتحدث عن أبيها البطل، أو ابنة بشار تروي في يوم ما، كيف أن أباها حارب الإرهاب وانتصر عليه. وبداهةً، حين يبرئ البعض اليوم صدام من الأنفال وغيرها من الجرائم، فليس من المستغرب أن هناك من سيأتي ليبرئ الأسد الأب من مجزرة حماة وتدمر وغيرها، وتبرئة الابن من تدمير المدن السورية وتهجير نصف سكانها، وربما يطيب للبعض تكرار الحديث أن الإرهابيين هم من قصفوا الغوطة بغاز السارين. لا سيما أن رغد وهي تتحدث عن مزايا الوالد المحبوب، وعندما ذكرت تدمير مناطق فإنما كانت تلمح لما فعله بشار الأسد في سوريا. لو كان لغاندي ابنة، ما كانت ستروي سيرة الأب البطولية والإنسانية، بأفضل مما فعلت رغد.

منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا تم اكتشاف ما يفوق مئتي مقبرة جماعية موثّقة في العراق، تبدأ من الموصل وتصل جنوباً إلى البادية غرب مدينة "السماوة". مقابر احتوت بقايا جثث رجال ونساء، منهم حوامل، وأطفال من الكرد، دُفنوا بملابسهم بعد إطلاق النار عليهم في تلك الحفر، بحسب أكثر من شهادة لناجين من تلك المجازر.

استخدمت رغد "نا" الدالة على الفاعلين، وهي تقول "احتلينا الكويت"، "ست وثلاثين سنة استمر حكمنا" وصولاً لقولها "نحن كنّا أسياد بلد"

لا أهتم في هذه المادة بتعداد جرائم الديكتاتور في العراق، وهي معروفة لمن لا يود أن يقع ضحية تعصبٍ من نوع ما، يودي به إلى الإنكار. شخصياً، احتملت الاستماع للمقابلة، لتترسخ في ذهني أكثر من قبل أهمية "فضيلة الخجل" الذي كان مُفتقداً في حديث ابنة الديكتاتور الوفية لأبيها. استخدمت رغد "نا" الدالة على الفاعلين، وهي تقول "احتلينا الكويت"، "ست وثلاثين سنة استمر حكمنا" وصولاً لقولها "نحن كنّا أسياد بلد"، هذا الاستخدام كان ينم عن حالة التشاركية العائلية مع إنكار تام لكل جريمة. مع ذلك، وربما ما عزز لديها القناعة بفضائل أبيها، وساعدها على أن تقول ما قالت، أنه تعاقبت على العراق بعد سقوط نظام صدام حكومات فاسدة وتابعة سلّمت العراق لإيران الطامحة للسيطرة على المنطقة. وهو الأمر الذي يقع فيه حتى المثقفون العرب وهم يصفون نظام صدّام بأنه كان أهون من كل تلك الشرور التي أحاقت بالعراق بعد رحيله. وكأن المفاضلة دائماً يجب أن تكون بين السيئ والأكثر سوءاً.

حققت المقابلة كما أعتقد أغراضها، فقد شدّت العصبية العربية السنّية في المنطقة أكثر، وبشكل خاص في العراق، حسب ردود الأفعال التي تتواتر من هناك، ويبدو أن هذا الأمر هو ترجمة للحاجة الراهنة إلى رمز يجتمع عليه العراقيون العرب السنّة في مواجهة التغوّل الإيراني.

ليس هناك تشتت في رواية التاريخ المعاصر، أكثر مما حدث ومازال يحدث في العراق بعد عام 2003. البطل لدى طرف هو خائن لدى طرف آخر. والضابط المحترف النزيه لدى جهة هو قائد حملة إبادة جماعية لدى جهة أخرى. ورغد في حديثها لم تشذّ عن هذا، ولكن أي مدقق في كلامها وسياقاته، سيعلم عن أي حكم فاسد وهمجي كانت تتحدث. ما أوردته عن كيفية اتخاذ القرار بإعدام زوجها حسين كامل وشقيقه عشائرياً، دون ذكر كلمة قضاء أو محكمة، وحده يشي بتخلف وهمجية وفساد نظام الحكم برمّته.

نهايات عام 1998 أصدر صدام حسين عفواً، أُطلق بموجبه سراح من اعتقل ولم يقتل خلال عملية الأنفال. ومع خروج المعتقلين وصلت شهادات حيّة عن الإعدامات الى عوائل المفقودين، إلا أن غالبية ذوي الضحايا، فضلوا تصديق الشائعات التي تقول إن بعض المفقودين شوهدوا في السجون وإن الباقين أرسلوا إلى دول الجوار، ولابد أنهم سيعودون يوماً. في سوريا، مثل هذه الشائعات تماماً ما تزال تبقي بعض ذوي ضحايا مجازر حماة وتدمر يحلمون بعودة المفقودين بعد أربعين عاماً من الانتظار.