أعراض غير مرئية

2021.05.12 | 06:57 دمشق

ينظر العالم بعين الترقب إلى كل ما يخص الوباء المتفشي في العالم من ناحية أعداد المصابين أو اللقاح والآثار الجسدية المترتبة على إصابة الشخص فيه، على الرغم من أنها ربما لن تكون الوحيدة بعد التغير العالمي الذي حلّ بالعالم.

قرأت منذ فترة مقالاً عن صحيفة New York Time، تحدث فيه الكاتب عن حالة شعورية مكتشفة تدعى Languishing ذكر فيها الكاتب Adam Grant أن هذه الكلمة تصف حالة يعيشها البشر في عام ٢٠٢١ نتيجة جائحة كورونا.

وفي الوصف هي حالة يعاني منها الإنسان جراء التدابير الاحترازية والنتائج المتعلقة بالجائحة وهي حالة نفسية تبدو بين الاكتئاب أو عدمه، مثل عدم الاكتراث باللامبالاة نفسها، أي لامبالاة اللامبالاة، ومن أعراضها أنها تؤثر في التركيز فتحدّ منه، وتزيد من ضبابية الرؤية عند النظر الحالي للمستقبل، وتنتج عدم العمل بكامل القوى، أو عدم الاكتراث بأن الشعور بجمال الأشياء يبدو في حالة تناقص، وعدم الانتباه لاختفاء المزاج الجيد، والأهم من هذا كله عدم الانتباه للانزلاق البطيء إلى الوحدة وهي الحالة الطاغية في هذه الفترة.

تطغى غريزة البقاء على عوامل الصحة النفسية التي تبقى في الصفوف الأخيرة، بالنسبة إلى أولويات العالم الذي يخشى على نفسه من الانقراض

في مطالعة على عجالة يبدو أن النتائج النفسية للتحولات التي يعيشها العالم في العامين الأخيرين خارج دائرة الاهتمام ولا تأخذ حيزاً كبيراً من الدراسة أو التحفز والاستنفار لمواجهتها، فنهرول للقضاء على فيروس يدخل الجسد بينما نترك الأبواب مفتوحة أمام احتمالات الفيروسات المدمرة التي قد تجهز على روح الإنسان ونفسيته.

إذ تطغى غريزة البقاء على عوامل الصحة النفسية التي تبقى في الصفوف الأخيرة، بالنسبة إلى أولويات العالم الذي يخشى على نفسه من الانقراض.

في مقاربة بسيطة يبدو أننا كسوريين نعاني من حالة مشابهة في فئات ليست قليلة منا، إنها تلك الفئة التي بدأت تشعر بانعدام الهدف والجدوى بعد عشر سنوات من الحرب التي تركت لدينا آثارها الجسدية والنفسية التي لا يتسع لذكرها مقال أو دراسة أو حتى كتاب  واحد ، لكنها تركتنا نسبح في فقاعة من العدمية واللا جدوى.

ينشغل الدارسون والدول في إعداد الدراسات والمحاضرات والمقالات لقراءة وتحليل الأوضاع السياسية أو البشرية وإعادة الإعمار ومراقبة سعر الصرف وإعادة اللاجئين الذين يحلمون بالعودة، بينما تدرك قلة قليلة جداً أن ذلك كله لا يستطيع إعادة ما خسرناه خلال السنوات الماضية.

حدث ذلك الإدراك في لحظة تاريخية فريدة ولأن "كل معرفة مجلبة للشقاء" انقطع في تلك اللحظة خيط الأمل الواهي الذي بقينا متعلقين به فترة طويلة قبل أن ندرك مدى وهنه، وعلى الرغم من أن تلك اللحظة كانت متفاوتة ومختلفة من شخص إلى آخر إلا أن إدراك تلك الصدمة أثر بالقدر نفسه على الجميع.

ألم الفقدان، أحداث التهجير، الموت، تجارب الاعتقال، الجوع والفقر، الإحساس بانعدام العدالة كل ذلك خلّف وراءه شعباً منكسراً ومنطوياً على نفسه وغير قادر على متابعة حياته التي يعتقد الجميع أنه نجح بإنقاذها حتى اللحظة الراهنة.

شريحة كبيرة أيضاً اتجهت إلى الكفر بالأحلام وقيم الحرية والعدالة والمساواة وألقت بنفسها في أتون الحياة الاستهلاكية، كي تنجو وتنقذ نفسها من التفكير في الأمر مراراً.

كان أمامنا كسوريين أن نموت بؤساً وأن نستسلم للطعنات المتتالية التي مُنيت بها ثورتنا، أو أن نكفر بكل شيء ونحيا هائمين على أحلامنا متحاشين النظر إلى الخلف كي لا نسقط في فخّ الأمل مجدداً.

في أحيان كثيرة كانت قشة النجاة الوحيدة هي الإيمان بعدمية الأشياء، أو الانصياع وراء احتمال انعدام قيمة الأشياء وفقدانها أهميتها.

تتسم خصائص متلازمة العدمية إضافة إلى ما ذكرناه سابقاً بأعراض غير مرئية على المصاب بحيث قد يظهر سويّ السلوك لطيف المظهر، لكنه كائن غير قادر على التفاعل والانفعال العاطفي والتعاطف الإنساني أو تكوين علاقة سويّة وطويلة الأمد، غير عابئ بالأشياء ويفكر بأن الحل الأفضل لإنهاء العذاب في العالم هو انعدام وجود الكوكب من الأساس.

علاوة على أن الجزء المتوحش منه قد يظهر في حالات كثيرة، لأنه وعلى الرغم من أنه ربما استطاع الخروج من أتون المعركة إلا أنه لم يستطع إنهاء الصراع الداخلي في داخله بعد.

اختار الإنسان المفترض فينا أن يقتلع الجزء العاطفي لديه ويرمي به بعيداً حتى يتمكن من تأمين مروره من ثقب الحرب الضيق بسلام من دون كوارث عاطفية تضاف إلى رصيد فشله الإنساني، لكنه لم يكن يدرك أنه بهذه الطريقة اختار ألا يمرّ من الحياة وإنما فضل أن يكون مجرد عابر بمحاذاتها من دون أن يدركه العالم المحيط.

كانت العدمية منهجاً حتمياً علاجياً نافعاً في بعض الأحيان مرّ كثير منا من ثقبها، كي يحافظ على سلامة عقله وكي لا تدفعه الأحداث التي عاشها والصراعات التي شهدها إلى الجنون، ربما لم نصلها بناء على معطيات منطقية ومدروسة بقدر ما كانت مبنية على حالة يأس موغلة، لقد كان الجزء الحيّ فينا ما زال يبحث عن قشة تجعله يعاود إيمانه بجمال الحياة التي لم تقنعنا به ظروفنا العامة والخاصة في أحيان كثيرة.

الأسباب قد تبدو مختلفة بالنسبة إلى الشعوب التي كانت يومياتها مختصرة بالموت المتكرر والبحث عن شاطئ نجاة أو السعي وراء ما يسد الرمق على أقل تقدير

تبدو حالة انعدام القيمة وسيطرة الفكر العبثي ربما مسألة عالم بأكمله وقضية جيل كامل بسبب شكل الحياة الاستهلاكية المتسارع الذي نعيشه يومياً، غير أن الأسباب قد تبدو مختلفة بالنسبة إلى الشعوب التي كانت يومياتها مختصرة بالموت المتكرر والبحث عن شاطئ نجاة أو السعي وراء ما يسد الرمق على أقل تقدير.

إن هذه الفلسفة أيضاً تبدو نابعة من نتائج الحالة الشعورية الخالصة التي بدأنا نعاني منها كسوريين منذ عشر سنوات، لكنها أيضاً في منأىً عن الملاحظة والدراسة وخارج مجال الاهتمام، بينما يعتبرها العالم العادل المتحضر رفاهية لا يحتاجها السوريون وغيرهم من الشعوب المنكوبة بالحروب وبالاستبداد، لأنهم ما زالوا في الدرجة الأولى من تحقيق سلم الاحتياجات ومازالوا يتخبطون من أجل الحفاظ على النجاة جسديّاً للاستمرار بالحياة.

كلمات مفتاحية