طبيب العيون الذي أعمى سوريا

من الواضح أن العزلة الدولية المفروضة على "السيد الرئيس" بدأت تؤثر على قدراته العقلية. سنوات غيابه الطويلة في أقبية القصر الرئاسي بعيداً عن التفاعل الإنساني والأنشطة الدبلوماسية، زادت من إحباطه وتفكيره المحدود، وحولته إلى ما يشبه القاصر غير المؤهل عقلياً ونفسياً لتولي أي مهام رسمية.. منذ خطابه الأول الشهير في مجلس الشعب عام 2011، والذي كان الشعب السوري ينتظره بفارغ الصبر، بدا واضحاً فشل الأسد في تحمل مسؤوليته كرئيس للدولة، وتجلت وقاحته وجهله في التعامل مع الأزمة ومع القضايا الملحة التي يعاني منها السوريون. لم يكن من المتوقع أبداً أن يصل الرئيس إلى هذا الحد من الاستخفاف وهذا المستوى من الصبيانية في التعامل مع شؤون الوطن.

لقد أظهر بشار الأسد أنه لم يستفد كثيراً من سنوات إقامته في لندن تحت رعاية الملياردير اللبناني نجيب ميقاتي وإخوانه. ولم يفهم ولو تفصيلا واحدا حتى البسيط والأساسي منها عن نمط الحياة وتركيب الدولة الأوروبية. اتضح ذلك وأكده لقاؤه الأخير مع «الصحفي» تاجر الشنطة اليهودي الروسي فلاديمير سولوفييف. الشبيح البوتيني الذي كان قد انهار وبكى أمام شاشات التلفاز منذ فترة غير بعيدة على إثر العقوبات الدولية التي فُرضت على اتباع بوتين ومصادرة أملاكه وعقاراته المشبوهة في إيطاليا.

لا نعرف بالضبط كيف تم الإعداد لهذا اللقاء، بطلب من القصر الجمهوري في دمشق أو بمبادرة من الصحفي الروسي المبتذل سولوفيوف، لكننا نعرف أنه تم بعد أسابيع قليلة من المقابلة مع الرئيس بوتين مع الصحفي الأميركي السيئ السمعة تاكر كارلسون، ابن شبكة فوكس نيوز الناطقة بلسان المحافظين والمنحازة تماما لصالح إسرائيل والمنظمات الصهيونية. فهل حاول سولوفييف تقليد كارلسون وإثارة ضجة صحفية بعقد لقاء مع الرئيس السوري المطلوب دوليا؟ أم أنها رغبة من بشار الأسد أن يحذو حذو معلمه الروسي بوتين، ليكسر عزلته، ولو قليلاً، ويعلن أنه لا يزال موجوداً؟

رغم أن المقابلة تناولت عدة مواضيع، إلا أن طبيعة ردود الأسد كانت عامة وسطحية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تأثره بنظرية المؤامرة التي "يعشقها" والتي تنعكس بوضوح في كثير من خطاباته وتصريحاته. والأسد لا يهاجم الغرب إلا لفظيا كعادته، لأنه يعلم جيدا لولا موافقة الغرب وأميركا وإسرائيل لما تمكن من البقاء في السلطة يوما واحدا. وهو يعرف تماماً ما الذي حدث في العراق وكيف وقف ابيه مع قوات التحالف التي ضربت العراق، فلا يحق له هنا أن يزاود في المواقف على بقية الدول العربية، ونرى كيف أن الأسد لم يجرؤ على التلفظ بكلمة واحدة خارج الطريق عند تناول قضية غزة، بل وتبرأ تماماً من كل الخطابات والديماغوجية لأفكار محور المقاومة لأنه يعرف جيدا مضمون الرسالة التي تلقاها مبكراً من الأميركان مع بداية أحداث 7 أكتوبر 2023.

كعادته السيد الرئيس يحب أن يظهر بمظهر الشخص الفهيم ليقول إن الغرب سبب كل المساوئ ونحن فقط أصحاب المصالح والمبادئ.

فالأسد في المقابلة يستهين بديمقراطية الغرب ويعتبرها مجرد إجراءات شكلية تقوم بها الدولة ويتبعها الخراف "الشعب" وبهذا هو يكذب بكل وقاحة. إن الديمقراطية، رغم إشكالاتها المختلفة، لا تزال وتكاد تكون حتى الآن أعلى أشكال الأنظمة السياسية المدنية والحضارية التي تحترم فيها كرامة وحقوق المواطنين على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي على العكس من سوريا والدول التي تحكمها سياسات سامة، وأنظمة مثل النظام الإيراني والنظام الكوري الشمالي وروسيا البوتينية. هذه الأنظمة التي تعيش وتعمل بآليات الفساد والمحسوبية والاستبداد. فالديمقراطية تعني صناديق الاقتراع الانتخابية والتصويت الحر بإرادة ذاتية كاملة للشعب وبعيدا عن أدوات القهر وإجبار الناخبين على التوجه إلى صناديق الاقتراع أو رشوتهم للإدلاء بأصواتهم. لقد ورث بشار الأسد السلطة وحكم سوريا من خلال أبيه حافظ الأسد. ولولا هذا التوريث لما سمع به أحد، ولما اكتسب أي قيمة شخصية ولا مهنية. ولبقي مجرد شخص مجهول، مثله مثل ملايين الناس في هذا العالم.

بكل بساطة وثقة وبعد سماع أفكار الرئيس وأجوبته في تلك المقابلة نستطيع القول إن أي طفل أوروبي يبلغ من العمر 12 عاماً يتمتع بفهم صحيح وذكاء أكثر من الرئيس السوري.

الأسد - ببغاء بوتين

الأسد في المقابلة يكرر ويتبنى جميع أفكار بوتين تقريباً، بل ويتفوق عليه في بعض الأحيان.. فعندما أجاب الرئيس الروسي على سؤال الصحفي كارلسون: من تفضل في الانتخابات الأميركية المقبلة، ترامب أم بايدن، أجاب بوتين: بايدن، ولكن عندما كرر سولفييف نفس السؤال، أجاب الأسد بكل غطرسة أن كل الرؤساء الأميركيين متشابهون، ليس هناك أي اختلافات بينهم.

بالنسبة له، الحياة في الغرب كذبة كبيرة. لا توجد شفافية ولا حقيقة ولا مبادئ، بخلافه، فهو يدعي أنه يتشارك مع الشعب في القرارات المصيرية وأن الحكومة تعلم الشعب بكل خططها.

ليس هناك حد لأكاذيب السيد الرئيس. أين المشاركة وأين الشفافية في بلد مثل سوريا؟

هو لا يخجل أيضاً من أفكاره السطحية ولا يكل من ترديد أفكار سخيفة ومضللة عن الغرب، وهو يعلم جيدا أن كل مستلزمات رفاهيته تأتي من الغرب، من ساعته، ملابسه، هاتفه وسيارته وأدويته، ولا شيء عنده من (حلفائه) في الشرق سوى أسلحته وأمواله المخبأة وبـ«الدولار». وحتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لم يسلم من وقاحة السيد الرئيس ووصفه بالمهرج زيلينسكي وبغض النظر عن موقفنا منه، الذي أثبت جدارته وتحمل مسؤولية بلاده وقاد شعبه في مواجهة أقوى آلة حرب في المنطقة وما زال يواجه الجيش الروسي منذ أكثر من عامين، وهو على العكس تماما، من بشار الأسد الذي فقد السيطرة على سوريا وباعها للجميع من إيرانيين وروس وإسرائيليين من أجل البقاء في كرسي الحكم في قصر المهاجرين بدمشق.

عن أي سوريا يتحدث الأسد؟

سوريا، البلد الذي يدّعي رئيسها أنه يدافع عن مصالحها الوطنية والعامة، هي سوريا "المزرعة" التي يتصرف كأنه مالكها، هو يدافع عن مصالحه الشخصية ومصالح عائلته والمقربين منه. سوريا البلد الذي يصعب توقع أي حدث أو التنبؤ به، البلد الذي تغيب فيه لغة الأرقام والإحصائيات. البلد الذي تقوم سياسة الإعلام فيه على الكذب وخلق الفوضى والاضطراب وعدم اليقين. البلد الذي لا يجرؤ أي مسؤول على الإدلاء بأي تصريح أو رأي خارج نطاق الاستخبارات والأمن، البلد الذي يحوّل الهزائم والدمار إلى انتصارات. البلد الذي يتهامس فيه المسؤولون فيما بينهم خوفا من رأس السلطة. بلد نموذج للحكم الفردي، تديره شبكة هرمية تشبه تراتبية عصابات المافيا تتحرك في بيئة مغلقة وأقرب إلى زعيم عصابة منه الى رئيس دولة.

(حافظ الثاني) وكوفي أنان

في خريف 2002 أقامت منظمة FAFO النرويجية حفل استقبالها السنوي كعادتها، وقد تمت دعوتنا نحن مجموعة من الطلاب الأجانب من جامعة أوسلو لحضور ذلك الحفل. وهناك التقيت بممثل الأمم المتحدة في الشرق الأوسط تيري رود لارسن، أحد مهندسي اتفاقات أوسلو والمدير السابق لمنظمة فافو. وبعد أن عرفت بنفسي أنني من سوريا قال: تعال. لأخبرك بهذه "النكتة" عن رئيسك. وتابع لارسن: "أتذكر جيداً أنني عندما كنت في زيارة إلى دمشق مع كوفي عنان والتقينا بالرئيس بشار الأسد، وبعد حديث ما في الشأن العام، كان من عادة عنان الحديث في بعض الأمور الشخصية وبأسلوب لطيف.. وكان قد علم أن الرئيس السوري استقبل ابنه الأول، فهنأه كوفي عنان وسأله. ماذا سميته؟

فأجاب بشار مبتسماً: سميته حافظ. ثم ضحك بصوت عالٍ، وتابع: “وسيحكم سوريا” أيضاً.

ربما ظن المبعوث الأممي ومساعده أن هذه الحادثة قد تكون “نكتة سمجة” من السيد الرئيس، لكن بالنسبة لنا كسوريين، وبعد أن عرفنا طريق هذا الشخص وعائلته إلى التوريث والحكم، نعلم أنها لم تكن مجرد مزحة أبدًا، بل طموح لاستمرارية "سلالة الأسد" في حكم سوريا.

لقد أصبح "حافظ الثاني" البالغ من العمر 23 عاما ضابطا في الجيش ويُقدّم للمجتمع كشاب وسيم مهتم بالرياضيات كجانب مدني وعلمي، خاصة بعد حصوله على درجة الماجستير من إحدى الجامعات الروسية. كما أنه يمتلك مكتباً دائماً في مركز البحث العلمي بدمشق، تشرف عليه والدته أسماء الأخرس، والتي بدورها تحاول احتكار الموارد الاقتصادية والمالية لهذا البلد بعد قرصنة معظم أموال وأملاك جابي الضرائب السابق (رامي مخلوف)، ولا تكل من محاولات تقديم نفسها للغرب كشخصية مدنية سنية معتدلة.

لقد بدأ بشار الأسد بالفعل في تشكيل نواة الدائرة الضيقة التالية حول ابنه، من العسكريين أبناء الجيل الثالث من آل الأسد (العائلة/السلطة). ومن أشهر عناصر هذه الدائرة باسل آصف شوكت، ابن بشرى الأسد، الذي عاش في دبي طوال فترة الحرب. تقريباً، لكن بدوره أصبح نقيباً في الجيش، فهو ابن شقيقة الرئيس السوري وقريباً صهره.