المسلسلات السورية.. أداة النظام المفضّلة في سياسة الإخضاع

2024.03.05 | 06:59 دمشق

حلب الشرقية
+A
حجم الخط
-A

أيام قليلة تفصلنا عن شهر رمضان المبارك، حيث تتنافس القنوات التلفزيونية على بث مسلسلات متنوعة لتنال إعجاب شريحة واسعة من المشاهدين في الدول العربية .

بالنسبة لبلد مُدْمّر وممزق مثل سوريا، من المفترض أن تضيف الدراما السورية ولو جانبًا بسيطًا من الفرح والترفيه إلى شعب فقير جائع، ضاقت حياته، ولم يبق له سوى القليل من العزاء في مشاهدة بعض هذه الأعمال، التي يمكننا أن نتوقع منذ هذه اللحظة أن معظمها  سيتناول في محتواه كل الموضوعات الممكنة باستثناء القضايا المهمة، الملحة والأساسية للشعب السوري.

لا يوجد فن محايد، بغض النظر عما يدعيه أصحاب الأبراج العاجية الفن، ففي أعلى مستويات حياديته، يحتوي على التحيز، بغض النظر عما إذا كان موضوعه إنسانيًا أو سياسيًا أو حتى ماليًا اقتصاديًا. في بلدنا سوريا، منذ السنوات الأولى لانقلاب الحركة التصحيحية، سعى نظام حافظ الأسد إلى العبث بالمجتمع السوري وعمل بكل الطرق على تدمير الشبكات والعلاقات الاجتماعية. بل إن هذا التدمير نجح منذ عام 1970 وحتى اليوم في التسلل والتغلغل في روح الإنسان السوري وتمكن من تحويلها إلى كتلة متكلسة هامدة أشبه بتماثيل ميتة .

القوة الناعمة في المسلسلات السورية

في إحدى كتاباته، أشار الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز إلى أن"الطاغية ومقاولي الأرواح، يحتاجون إلى أن يقنعونا بأن الحياة عَسِيرة وثقيلة. السلطة تحتاج إلى أن تصيبنا بالهلع أكثر حتى من حاجتها لقمعنا". فما بالك عندما تمارس السلطة الأمرين، تمارس القمع وتنشر الذعر في الوقت نفسه، كما هو الحال في الوضع السوري.

لقد سيطر نظام الأسد على المجتمع السوري ليس فقط من خلال استخدام "القوة الصلبة" كوسيلة للإكراه والإقناع، من خلال أجهزته الأمنية القمعية ووحدات مخابراته وقوة جيشه، وميليشياته وسجونه واغتيالاته وانتهاكاته. لكنه لجأ أيضاً إلى «القوة الناعمة» التي تشكل وتحافظ على روح هذا النظام ومعنوياته وتحافظ على سرديته من خلال الفن والثقافة والدعاية والأدوات المدنية.

فبعد إغلاق معظم دور السينما والمسارح في عموم الجمهورية، سعى حزب البعث إلى الحد من دور القطاع الخاص في الإنتاج الفني، حيث سيطرت الدولة على معظم وسائل الاتصالات والترفيه وشددت حصارها على المجتمع من خلال احتكاره لها، من الصحف والمجلات وقناته التلفزيونية وكل فعاليات مهرجاناته والأنشطة الثقافية والفنية والرياضية جاءت لتسهم في صياغة رواية النظام الوحيدة للشعب. ولجأ إلى ظاهرة الإنتاج الدرامي (المسلسلات) التي أصبحت فيما بعد هي الظاهرة الرئيسية ومصدر الإلهام والناقل السياسي لتوجهات النظام وأخلاقه، والتي أرست بالإضافة إلى ذلك أجواء الرعب والخوف في المجتمع.

في السبعينيات، اشتهر المسلسل الكوميدي «صح النوم» بطولة الفنان الراحل نهاد قلعي (حسني البورظان) والممثل دريد لحام (غوار الطوشة). حيث أصبحت هذه الشخصية بمثابة «نموذج شعبي» لتكريس مفهوم «الدهاء والانتهازية» في حل كل مشكلات الحياة. وأصبحت أخلاق (غوار الطوشة) في التآمر على أقرب أصدقائه وخيانتهم والإيقاع بهم شعار يتغنى به الشارع الشعبي السوري، ورغم جاذبية المسلسل ومتابعته من قبل المجتمع السوري بأكمله تقريباً، إلا أن رسائله الضمنية أعطت دلالات مبكّرة لأخلاقيات السلطات الحاكمة وبداية اعتماد القبول في ممارسات الفساد والمحسوبية. بعدها جاء مسلسل "حمام الهنا" و"مقالب غوار" وبقية سلسلة "ابن الطوشة" لتصبح نموذجاً واضحاً لتكريس هذا السلوك وهذه الشخصية، وثبتت الحقائق بعد عقود من الزمن ومع بداية انتفاضة الشعب السوري، وجدنا أن هذه الشخصية انحازت بقوة لسلوك النظام وهمجيته في قمع حركة وطموح الشعب السوري نحو الحرية والكرامة. وهي الشخصية نفسها التي عظّمت في معظم أعمالها التلفزيونية والمسرحية في الماضي قيم الشرف والأخلاق والوطنية والانحياز للإنسان السوري المظلوم. وتبين أن هذه الشخصية، باختصار، كانت أداة قوة بيد السلطات لمحاربة المجتمع وتضليله.

الدراما السورية وتفريغ القضايا من محتواها

خلال الثمانينيات، تعثر النظام السوري وترنّح بسبب العديد من القضايا الساخنة، بما في ذلك قتاله المسلح مع حركة الإخوان المسلمين، ووضعه الصعب أمام خساراته العسكرية الفادحة في حرب لبنان، واقتتال الأخوين رفعت وحافظ على السلطة، مع التدهور الاقتصادي المروع  في الداخل السوري. كل ذلك انعكس بشكل غير مباشر في سرديته عبر المسلسلات التلفزيونية، حتى أننا كدنا نفتقد أو لم نعد نتعرف على المسلسلات التلفزيونية الواضحة التي نالت تأثيراً وشهرة واسعة النطاق في تلك الحقبة .

لكن مع بداية التسعينات وما بعدها، ومع طفرة الإنتاج في الدراما السورية وبدء مشاركة القطاع الخاص في إنتاج المسلسلات التلفزيونية، ذاع صيت الكثير من المسلسلات أشهرها مسلسل “مرايا” للفنان ياسر العظمة،  كأسلوب كوميدي مكمل لرحلة مسلسل "صح النوم"، لكنه في الوقت نفسه اختلف عنه في أسلوبه. اللافت  أنه في كل المسلسلات التي تتناول الوطن والمواطنة والقضايا الوطنية والقومية الكبرى وصلت إلينا عبر الكوميديا، ولم يكن ذلك صدفة أبداً في بلد تحكمه أجهزة أمنية مثل سوريا.

المتابع الجيد لمسلسل "مرايا"سيلاحظ بوضوح الحضور الكبير لكل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومعالجتها بأسلوب كوميدي، الذي هو في الواقع أقرب منه إلى "التهريج" وقد تبدو هذه «الجرأة» في تناول المحظورات للوهلة الأولى تعبيراً عن انفتاح المجتمع السوري على بعض الإصلاحات السياسية وسقفاً أعلى للنقد، حيث تناولت بعض الحلقات تعسف الأجهزة الأمنية وبعض شؤون الجبهة الوطنية التقدمية والأحزاب السياسية، وتناولت الخطابات القومية والفساد الإداري والمحسوبية في كل قطاعات الحياة والدولة، وحتى حياة الشريحة الجديدة من الفاسدين وفاحشي الثراء تم تناولهم، ومنهم الساسة ورجال المال و السلطة.

والحقيقة أنه لو نشرت بعض الأحزاب السياسية سيناريوهات بعض هذه الحلقات في صحفها، لتعرضت للاضطهاد وزج أعضائها في السجون.. لكن كل ذلك كان مسموحا به فقط في المسلسلات، وبشرط أن يتم بطريقة «التهريج أو الاستهزاء»، حيث تم إفراغ كل الموضوعات الجادة من محتواها وتحولت إلى حلقات كوميدية تضحك الناس عندما يشاهدونها، بحيث يمكنهم معرفة الحقيقة حول الوحشية والرعب والخوف المختبئ  وراء هذا الضحك والترفيه.

كعادتها في الأوقات الصعبة والمصيرية، تتنصل الدراما السورية والقائمون عليها من مسؤوليتهم، وتصبح ناطقاً باسم النظام داعماً ومروجاً  لروايته.

وهذا ما حدث بوضوح بعد الحراك الشعبي السوري في عام 2011، وحتى اليوم يُقدّم الرافضون لهذا النظام على أنهم إرهابيون وهم سبب كل المصائب من جوع وفقر وانهيار في الوطن.

الدراما السورية المنتجة تحت سقف النظام السوري وأمام أعين مخابراته، شاهد زور وتزييف للحقيقة، وأسوة بالسياسيين والضباط والقتلة الذين يدافعون عن السلطة، يعترفون معاً أن النظام فيه بعض الفساد، لكن جوهره نظيف، ورئيسهم أنظف الكل.