لا حياد في السينما
ما زالت مشاهد المذبحة الرهيبة على درجات الأوديسة تعتبر من أشهر المشاهد السينمائية في تاريخ السينما، ومنذ أن أخرج سيرغي أيزنشتاين فيلمه الشهير وتحفته السينمائية "المدرعة بوتمكين" سنة ١٩٢٥ عن انتفاضة عمال السفينة الروسية في سانت بطرسبورغ، وكيف سَحق الجيش القيصري انتفاضتهم بضراوة أدت إلى مقتل الاف الضحايا، ما زالت السينما لا تطيق الحياد.. فلا حياد في الجريمة ولا حياد مع القاتل.
هذا ما أدركه السوريون بفطرتهم وعفويتهم، بعد حوالي مئة عام تقريباّ. في درعا عندما بدأت كاميرات هواتفهم المحمولة تسجّل وتوثق أول جرائم قتل ارتكبها نظام الأسد بيد قناصين من المخابرات ومرتزقة إيران في مظاهرات الحرية يوم ١٨ آذار ٢٠١١ عندما سقط أول شهيدين للثورة الشهيد محمود جوابرة ولحقه الشهيد حسام عياش.
مع خطوات الثورة الأولى رافقت الكاميرا درب المظاهرات السلمية ولتتحول فيما بعد إلى سباق مع الواقع لتواكب سرعة تطور الأحداث ولتغطي وتنقل المسارات العاصفة وكافة التحولات التي اصابت هذه الثورة حتى يومنا هذا.
حتى في أخطر الأوقات عندما كان تصوير أي مقطع فيديو عن انتفاضة الشارع السوري قد يودي بصاحبه إلى الموت، لم يتوقف السوريون عن التصوير والتوثيق.
زاوية الكاميرا مسألة أخلاقية
هذا ما قاله يوماً المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني، وهذا ما فعله السوريون، وبعفوية أيضاً، عندما وضعوا كاميراتهم على قلوبهم وتبعوها وإن أودت بهم أحياناً إلى موت محتّم، كان حافزهم الأهم توثيق الحقيقة وتوثيق لحظات يكاد لا يصدقوا أنها تحدث في بلادهم، أين كان كل هذا العنف وهذا الموت، الجيش يقتلهم، الأجهزة الأمنية تقتلهم، الروس والإيرانيون وحزب الله، تنظيم داعش وعشرات الميليشيات الطائفية تقتلهم والكاميرا تسجّل وتسجّل، فخلال فترة قصيرة كنت تجد كمّاً هائلا ( يتجاوز عشرات الآلاف) من مقاطع الفيديو التي تم تصويرها في سوريا عن فظائع ومجازر ميليشيات الأسد، لكن فيما بعد تم حذف عدد كبير جدا من هذه المقاطع إما نتيجة سياسة محددة للنشر في منصات النت أو عبر خطة مُمنهجة من أجهزة النظام عبر تفعيل "الذباب الإلكتروني" و"الجيش الإلكتروني".
المواطن الصحفي
ما بين ٢٠١١ إلى ٢٠١٣ استطاعت الثورة أن تتفوق إعلامياً على أعلام النظام، فغزارة الإنتاج البصري الذي قام به الناشطون على صفحات السوشيال ميديا وعلى شبكة النت بالإضافة إلى تواصلهم مع عدد كبير من التلفزيونات الأجنبية وبعض المحطات العربية استطاعوا أن ينقلوا إلى العالم حقيقة ما يحدث في سوريا واستطاعت الثورة أن تكسب تعاطف شرائح واسعة ومهمة من الناس على المستوى العربي والدولي كقضية عادلة لشعب يريد الحرية والكرامة في ظل تعتيم إعلامي رهيب قام به النظام وحيث تم إغلاق البلد في وجه معظم الصحافة العالمية، عندها كان مفهوم "المواطن الصحفي" قد استطاع تعويض غياب هذه الفجوة التي حدثت والتي أرادت فيها الأجهزة الأمنية كعادتها عزل ما يحدث في سوريا عن العالم.
الطريق إلى العالمية
حتى عام ٢٠١١ لم يكن في سوريا شيء اسمه "سينما سورية" وإنما أفلام سورية، ومن بعض أسباب هذا الغياب هو طبيعة الطغيان السياسي والأمني على المجتمع وكتم هامش الحريات الأدبية والفنية، بالإضافة إلى أن النخب السينمائية من مخرجين وكتاب سيناريو ومهتمين لم تتمكن من تشكيل ملامح واضحة لسينما سورية مميزة فنياً أو حتى كمضمون عام. لكن بنفس الوقت كان هناك بعض الأفلام الناجحة والجيدة والمرتبطة ببعض أسماء مخرجين موهوبين كأسامة محمد ومحمد ملص ورياض شيّا وهالة العبد الله وسمير ذكرى بالإضافة للمرحوم عمر أميرلاي والمرحوم ريمون بطرس.. هؤلاء استطاعوا أن يتركوا بصمة فنية مهمة على صعيد الفيلم السوري وانتقلوا به إلى مهرجانات عالمية.
لكن بعد ثورة عام ٢٠١١ ومع اندلاع انتفاضة السوريين حدثت مواكبة هائلة تكاد تكون أشبه بالانفجار السينمائي بين السوريين من حيث كمية الأفلام التي تعاطت مع الواقع السوري واستطاعت أن تكون انعكاس له بطريقة ما، بل ونكاد نقول إنه بدأت تتشكل ملامح بسيطة قد تؤدي فيما بعد إلى إنتاج مايسمى "بالسينما السورية" المميزة في صفاتها ومضامينها.
ولأول مرة يصل عدد غير قليل من الأفلام السورية إلى مهرجانات معروفة عالمياً مثل مهرجان كان، فينيسيا والأوسكار: "ماء الفضة"، "عرض الحرب"، "العودة إلى حمص"، "عن الآباء والأبناء"، "آخر الرجال في حلب"، "الكهف"، "مِن أجل سما".
لقد نالت هذه الأفلام مع مخرجيها من الشهرة والترحيب العالمي الشيء الكثير واستطاعت أن تنقل إلى العالم الكثير عن فظائع الدمار والقتل في سوريا، هذه الأفلام كانت أشبه بلوحات عامة مرسومة جيداً لتشكل صدمة للمشاهد الغربي عن هول عنف النظام وأجهزته وحلفائه من الروس وغيرهم لما يحدث في سوريا.
سينما ترى في كل الاتجاهات
لكن في نفس الوقت كان هناك مجموعة أفلام أنتجها السوريون تتناول الموضوع السوري بطريقة مختلفة قليلاً، طريقة غلب عليها الطابع الشخصي والذاتي لمخرجين كانوا فاعلين وكانوا جزءا لا يتجزأ من أفلامهم، رغم أن هذه الأفلام لم تصل إلى نفس شهرة الأفلام السابقة لكنها لم تكن أقل أهميةً وجمالاً. هذه الأفلام نالت أيضاً عدة جوائز وشاركت في مهرجانات عالمية مثل (مهرجان لوكارنو بسويسرا والايدفا في هولندا، وسان دانس في أمريكا، وتورينتو في كندا، وحتى في مهرجان دبي الدولي). هذه الأفلام حاولت أن تتجاوز الواقع السوري قليلا من خلال نمط حكايتها وشخصيتها حيث اهتمت أكثر بالتفاعلات الداخلية والانعكاسات الإنسانية للمواطن السوري في ظل عنف النظام وهمجيته لتصبح سينما صاحبة رؤيا و استشرافية، ومن هذه الأفلام: فيلم "٣٠٠ ميل" من إخراج عروة مقداد، "القربان" لإياد الجرود، "طريق البيت" لوائل قدلو، "ذاكرة بلون الخاكي" للمخرج الفوز قنجور، "طعم الإسمنت" لزياد كلثوم، "كوما" من إخراج سارة فتاحي، فيلم "جِلْدٌ" للمخرجة السورية عفراء باطوس، "مسكون" من إخراج لواء يازجي، "لسه عم نسجل" إخراج سعيد البطل وغياث أيوب، فيلم "بلدنا الرهيب" للمخرجين السوريين محمد علي الأتاسي وزياد حمصي، ومن الجولان المحتل فيلم "أفق خفيف" للفنانة رندة مداح، كما لاننسى الفيلم الروائي "يوم أضعت ظلي" للمخرجة سؤدد قعدان والذي فاز بجوائز في مهرجان البندقية في إيطاليا. وما زالت بعض الأفلام قيد الإنجاز لمخرجين/ ومخرجات شبان مثل نضال الحسن، جمعة حمدو، سارة زرياب ولينا العبد.
إذا كانت مهمة الفن والسينما إيقاظ الضمير، وإذا كانت السينما مشروع عدالة، ولاعدالة بالتكتم على المجرم والقاتل، فمن الملاحظ أن معظم أفلام الثورة كانت أفلاما وثائقية، مرآة تعكس من دون خوف وبشجاعة ما يحد ث في المجتمع السوري، على حين أن جماعة "الموالاة" والذين ادّعو الحيادية هربوا من الواقع ولجؤوا إلى الحكايات الخيالية فكانت بعض الأفلام الروائية "المبتذلة" والتي هدفت إلى أنسنة المجرم ونشر معلومات مغلوطة عمداً عن الصراع الجاري وتحاول تبرئة نظام الأسد من مسؤوليته عن الكارثة الشاملة التي أصابت سوريا من قتل وتهجير وهولوكوست.
تحف سينمائية
الآن وبعد مرور ٩ سنوات على انطلاق نداءات الحرية في سوريا ورغم كل المنعطفات والتحولات القاسية التي مرّت فيها الثورة من عام لعام، هي ما زالت مستمرة ومشروعيتها الأخلاقية لم تنته ولن تنتهي إلاّ بإسقاط القمع وإقامة العدالة المبنيّة على محاسبة كل المجرمين الذين تلطخت أياديهم بدم الأبرياء السوريين.. السينما ستتابع حكاية سردية الثورة، وستتابع رصد آلام السوريين وأفراحهم وتحولاتهم، وبالرغم من كل أهمية النتاج السينمائي فإنه حتى الآن لم يتم صنع الفيلم الذي نستطيع أن نقول عنه إنه "التحفة السينمائية"، والذي نستطيع أن نقول عنه إنه الفيلم الذي قد يختزل الحكاية السورية خلال هذه السنوات.