كيف تدير روسيا علاقاتها مع الشركاء في سوريا؟

2020.07.18 | 14:32 دمشق

نوع المصدر
إسطنبول - طارق صبح

يرى الباحث في جامعة سان بطرسبرغ نيكولاي كوزانوف أن "روسيا قبيل اندلاع الربيع العربي كانت تتجاهل الشرق الأوسط بشكل كبير، لكن بعد العام 2011، بدأت بالنظر إلى المنطقة بجدية واهتمام واضحين، باعتبارها موطئ قدم لإعادة الاعتبار للسطوة السوفيتية".

سعت موسكو بعد اندلاع ثورات الربيع العربي إلى تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع القوى الرئيسية في المنطقة، كتركيا وإيران وإسرائيل، فضلاً عن محاولاتها في خلق التوافق والتوازن مع الغرب، الذي هددها بالعزلة والعقوبات إثر تدخلها في أوكرانيا، بعد سقوط نظام حكم حليفها فيكتور يانوكوفيتش، وضم شبه جزيرة القرم في العام 2014.

لكن الحدث الأبرز الذي جعل موسكو تفرض نفسها كلاعب أساسي في المنطقة كان تدخلها العسكري في سوريا، في أيلول 2015 إلى جانب نظام بشار الأسد، ما قلب الموازين لصالحه، بعد أن كان نظامه قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.

وحرصت روسيا منذ بداية هذا التدخل على إظهار نواياها وأهدافها بوضوح، كما لم توفر جهداً بتوجيه الرسائل على كل الصعد، منها رسائل للروس أنفسهم، تؤكد فيها أنها ماضية في هذا التدخل لحماية مصالحها، وتقنع الشعب الروسي أنها صاحبة القرار في سوريا، ومن جهة أخرى رسائل توجهها إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء، مفادها أن روسيا ماضية في إحياء الثقل السوفييتي في العالم، خاصة بعد أن عيّن الرئيس الروسي سفير موسكو لدى دمشق ألكنسدر يفيموف، مبعوثاً رئاسياً خاصاً في سوريا، في خطوة اعتبرها كثيرون هذا التعيين بمثابة انتدابٍ روسي صريح على سوريا.

إلا أن تعقيدات الحرب السورية ألقت بظلالها على علاقات موسكو بشركائها، وتأرجحت بين مد وجزر، وبات الحفاظ على التوازن في هذه العلاقات أمراً بالغ الصعوبة، خاصة مع تزايد أطماعها في تحقيق مزيد من الأهداف السياسية والاقتصادية والتجارية.

تركيا: "عهدٌ بالصداقة" وانتهازٌ للفرص

رغم التقلبات والتوترات، يعتبر الملف السوري محور اللقاء الأساسي للعلاقات الروسية التركية، كما تنسجم موسكو وأنقرة في الموقف من الولايات المتحدة وحليفها في سوريا "حزب العمال الكردستاني"، وتعتبره تركيا منظمة إرهابية، فيما لا تراه روسيا كذلك، لكنها لا تسمح بأي حراك انفصالي في سوريا، ما يجعل كلا الدولتين تضع الأجندات الخاصة بكل منهما جانباً مقابل الرؤية المشتركة لآليات التسوية في سوريا عبر "مفاوضات أستانا"، التي وصفها المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن الدولي فاسيلي نيبينزيا بأنها "الآلية الفعالة الوحيدة لتحقيق الاستقرار في سوريا".

دورية عسكرية مشتركة تركية روسية في محيط منطقة رأس العين السورية في تشرين الثاني 2019 - AP

 

في السياق، تتنامى المصالح الاقتصادية بين الطرفين، خاصة في قطاع الطاقة، وتوّجت العلاقات الاستراتيجية مع تزويد موسكو لأنقرة بنظام الدفاع الصاروخي الروسي الصنع "S-400"، بالإضافة لشروع شركة "روس آتوم" الروسية في بناء محطة الطاقة النووية التركية "أكويو" بالقرب من مدينة مرسين التركية، والتي تضم مفاعلات روسية الصنع، بحجم استثمار روسي يبلغ 22 مليار دولار.

كما يجسّد مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي "تورك ستريم" تطوراً للعلاقات بين موسكو وأنقرة، حيث اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن المشروع "ذو أبعاد تاريخية لعلاقاتنا الثنائية ولجغرافيا الطاقة في منطقتنا، والذي بذلنا جهوداً كبيرة من خلاله مع الأصدقاء الروس"، في حين وصف بوتين المشاريع بين الدولتين بأنها ترمز إلى "تعهّد الصداقة بين دولتينا".

من جانب آخر، تمرّ العلاقات التركية الأميركية بتوترات ما إن تهدأ حتى تعود من جديد، خاصة مع تعارض الأجندات في سوريا، ومشكلات أخرى منها قضية الداعية فتح الله غولن المتورط بتدبير الانقلاب الفاشل في تموز 2016، وقضية اعتقال موظفين في السفارة الأميريكية في أنقرة، فضلاً عن معارضة واشنطن لحصول أنقرة على نظام الدفاع الصاروخي "S-400".

هنا تراقب موسكو هذه التوترات بسعادة بالغة، ولا تخفي نيتها في انتهاز الفرص وتحقيق أقصى المكاسب من جميع الأطراف، مجسّدة بذلك مقولة "مسك العصا من المنتصف"، وهو ما بدا واضحاً في تصريح المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا الذي قال إن "تركيا ليست مدعوة في سوريا، لكنها شريك مهم في عملية التسوية السورية، ولديها مخاوفها الخاصة، لكن بالطبع سيتعين عليها أن تغادر سوريا كأي وجود أجنبي آخر في البلاد".

إيران: اعتراف بالمطامع وتضارب معها

لم تخفِ إيران أطماعها في سوريا، والمتجسدة في مد خط إمداد بري من طهران إلى حليفها الأبرز في لبنان "حزب الله"، عبر العراق وسوريا، ويأتي دعمها لنظام الأسد في سياق تعزيز نفوذها في المنطقة، فضلاً عن مطامع جيوسياسية واقتصادية أخرى، وهو ما تعترف به روسيا وتعتبره "حقاً مشروعاً" لها، خاصة وأنها شريك وضامن رئيسي في مفاوضات أستانا.

وتعتبر إيران سوريا طريقاً لمرور المال والسلاح والعناصر والبضائع والخبرات التقنية والعسكرية لحلفائها في لبنان، وتدرك تماماً أن سقوط نظام الأسد سيؤثر بلا شك على النفوذ الاستراتيجي الإيراني على الصعيد الإقليمي.

ومع تأسيس روسيا لقاعدتها العسكرية في حميميم في طرطوس، ظهرت الأطماع الإيرانية جليّة في سوريا، وحرصت طهران على الحفاظ على حصتها من الكعكة السورية، فسعت للسيطرة على عدد من المفاصل الحيوية في الاقتصاد السوري، مثل مشروع "سكة حديد الشلامجة - البصرة" القاضي بمد سكة حديد من منفذ الشلامجة على حدودها مع العراق إلى مدينة البصرة، ومنها إلى الحدود السورية وصولاً إلى ميناء اللاذقية على البحر المتوسط.

مشروع سكة حديد الشلامجة - البصرة

 

وكشفت تقارير صحفية أن مشروع سكة الحديد يسهّل السيطرة على ميناء اللاذقية، الذي سيمثّل، فضلاً عن نقل الأسلحة، بوابة إيران التجارية نحو البحر المتوسط عبر العراق وسوريا، وبالتالي وضع قدمها على أبواب إسرائيل.

وحاولت إيران سابقاً التغلغل أكثر في مدينة اللاذقية، مستغلة المعاناة الصعبة لأهالي المدينة لانقطاع الكهرباء، فقررت تسيير سفن لتوليد الطاقة من البحر لتزويد المدينة بالكهرباء، مستخدمة هذا الأمر كورقة نفوذ لتقوية موقفها العسكري والتجاري.

موسكو لم تقف مكتوفة الأيدي أمام الأطماع الإيرانية، واستيائها بدا واضحاً بعد زيارة بشار الأسد إلى طهران في شباط من العام الماضي، والتي قدّم فيها تنازلات كبيرة، ما دفع بالقيادة العسكرية الروسية في قاعدة حميميم إلى إيقاف توقيع عقد اتفاق بين النظام وإيران، ينص على تأجير منطقة شاطئ وادي قنديل شمال مدينة اللاذقية لمدة 99 عاماً كمرفأ لوزارة الدفاع الإيرانية، مقابل تزويد المدن الساحلية السورية بالكهرباء.

ويدفع عجز نظام الأسد وضعفه إلى تزايد تضارب المصالح والصراع بين روسيا وإيران في سوريا، على الرغم من تحالفهما "الاستراتيجي" في أستانا، ونقلت صحيفة "التايمز" البريطانية عن رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي السابق مايكل هيرتزوغ قوله "لا ترغب روسيا في أن تكون إيران قريبة منها"، مضيفاً أن "إيران نشرت في الماضي قواتها قريباً من القواعد الروسية لمنع الهجمات الإسرائيلية".

ويبدو أن الحصار الإيراني لنظام بشار الأسد يتجاوز سيطرة الروس، فإيران تطالب بفواتير تعويض عن دعمها العسكري واللوجستي ورد ديونها المستحقة منذ العام 2011، أو توقيع الاتفاقيات التي تمكّنها من تعزيز نفوذها في سوريا، مثل اتفاقية "التعاون العسكري الشامل" التي وقعها وزير دفاع النظام ورئيس أركان الجيش الإيراني بداية تموز الحالي.

ويبقى السؤال، هل تسمح موسكو لطهران بإكمال مشروعها الاستراتيجي والسيطرة على ميناء اللاذقية القريب من قاعدتها الرئيسية في طرطوس أم توقفه كما فعلت مع ميناء شاطئ قنديل؟

إسرائيل: "دولة ناطقة بالروسية"

شهدت علاقات موسكو وتل أبيب قطيعة استمرت نحو 24 عاماً، بدأت مع قصف الطائرات الإسرائيلية في العام 1967 أهدافاً في مصر، الحليف الأبرز للاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط حينها.

وتجاوز الاتحاد السوفيتي القطيعة بدعاية موجهة ضد إسرائيل، نشرها بين الطلاب والمعلمين والضباط وعناصر الشرطة، حتى أنه ورد في الموسوعة السوفياتية الكبرى الصادرة عام 1969 أن "الصهيونية الحديثة هي شوفينية متعصبة وعنصرية مناهضة للشيوعية وللاتحاد السوفياتي"، واصفة إياها بأنها "أداة مالية يستخدمها الأميريكيون من أجل الإمبريالية العنصرية والحرب ضد حركات التحرر".

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عادت العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وتل أبيب، لكنها بقيت في الحدود الدنيا، حتى مجيء فلاديمير بوتين إلى السلطة، الذي وصف إسرائيل في خطاب له في العام 2011 بأنها "دولة ناطقة بالروسية لأن نصف سكانها يتحدثون الروسية"، واعتبر أن "إسرائيل جزء من العالم الروسي والثقافة الروسية، والكثير من الثقافة الإسرائيلية ما هي إلا ثقافة روسية".

ومع التدخل الروسي في سوريا، حرص بوتين على التنسيق مع إسرائيل على الملأ، واحتفلت تل أبيب بهذه المبادرة، فتحولت موسكو مقصداً دائماً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بهدف تعزيز الود والتنسيق وتبادل المعلومات، وبُنيت العلاقة بين الدولتين على مصلحة روسيا في حشد تأييد اللوبي الإسرائيلي لتدخلها العسكري في سوريا في دوائر صنع القرار الأميريكية والأوروبية، في مقابل السماح لإسرائيل بحماية أمنها عبر توجيه ضربات ضد مواقع لمليشيا "حزب الله" وإيران على الأراضي السورية.

 

لكن العلاقات المزدهرة تعرضت لنكسة في أيلول من العام 2018، عقب إسقاط دفاعات قوات نظام الأسد لطائرة روسية عن طريق الخطأ قبالة السواحل السورية، أثناء تصدّيها لغارة جوية إسرائيلية، واعتبر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو حينها أن "المسؤولية الكاملة في إسقاط الطائرة وموت طاقمها تقع على الجانب الإسرائيلي"، وقالت وكالة الأنباء الروسية إن "الطيارين الإسرائيليين جعلوا من الطائرة الروسية غطاء لهم، ووضعوها في مرمى نيران الدفاع الجوي السوري"، فيما حمّلت إسرائيل المسؤولية لإيران ومليشيا "حزب الله".

وخلّف إسقاط الطائرة توتراً في العلاقات الروسية الإسرائيلية، وعلى الرغم من ذلك، سعى كل من الرئيس الروسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى تخفيف حدة التوتر ونزع فتيل الأزمة واحتوائها، وعكس هذا السعي عمق التحالف والشراكة بين موسكو وتل أبيب.

وعلى الرغم من تجنّب الطرفين لاحقاً الحديث عن حادثة إسقاط الطائرة، إلا أن مصادر صحفية في موسكو قالت إن بوتين طلب من الجانب الإسرائيلي زيادة وقت التحذير قبل قيام الجيش الإسرائيلي بتوجيه ضربات داخل الأراضي السورية.

وفي سبيل استعادة دفء العلاقات، ساعدت روسيا، بالتعاون مع شركاء من نظام الأسد، في تسليم رفات الجندي الإسرائيلي زخاري بوميل، المفقود في لبنان قبل 37 عاماً، وشكلت هذه الخطوة ورقة رابحة استخدمها نتنياهو في كسب أصوات اليهود الناطقين بالروسية في انتخابات الكنيست، والبالغ عددهم مليونَ ناخب، وهذا ما أدركه جيداً بوتين البراغماتي، فقدّمها لنتنياهو على طبق من ذهب، على أن تعود عليه المنفعة لاحقاً.

الجندي الإسرائيلي زخاري بوميل المفقود في لبنان قبل 37 عاماً - سوشيال ميديا

 

من جانب آخر، يشكّل الوجود الإيراني في سوريا تهديداً حقيقياً لإسرائيل، ولطالما أعربت موسكو عن تفهّمها للمخاوف الإسرائيلية من أنشطة مليشيا "الحرس الثوري الإيراني" في تطوير صواريخ بعيدة المدى لمصلحة مليشيا "حزب الله"، وتلعب الضربات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية دوراً فاعلاً في إعادة رسم التوازنات في المنطقة وإضعاف الدور الإيراني فيها.

التدخل الروسي في سوريا بحجة "محاربة الإرهاب"، دعماً لنظام الأسد الذي قتل مئات الآلاف وشرّد الملايين من السوريين، ودمر بشكل شبه كامل البنى التحتية، وأهدر موارد البلاد لعقود عدة قادمة، يُظهر بوضوح أن النظام الروسي لا يقل قمعاً عن الدكتاتوريات التقليدية في المنطقة العربية.

ففي روسيا لا توجد معارضة حقيقية، ويسيطر الكرملين على وسائل الإعلام، وتأتي الحريات وحقوق الإنسان في مؤخرة الاهتمامات الروسية، وهو ما ينسجم مع دعم موسكو لأنظمة دكتاتورية متعددة في المنطقة، كنظام القذافي في ليبيا ونظام البشير في السودان ونظام السيسي، وقبله مبارك، في مصر، إلا أن كل هؤلاء لم يعطوا لروسيا جزءاً قليلاً مما أعطاه لها نظام بشار الأسد، الذي بقي تابعاً ذليلاً ومهاناً، وجعلها الحاكم الفعلي وصاحبة الكلمة الفصل في دولة لطالما اعتبرت الأبرز في منطقة الشرق الأوسط.