ليس زلزال شباط 2023 بما قد يُنسى لمن عاشَه، خاصة في هاتاي؛ فكيف لمَن فقدَ أحبة فاكتوى قلبه، أو سكناً فتهجّر ولو حيناً، فكلنا تذكّر؛ وقديماً قال النابغة الجعدي:
تَذَكَّرتُ وَالذّكرَى تُهيِّجُ للفَتَى وَمِن حَاجَةِ المَحزُونِ أَنْ يَتَذَكَّرا
وما أكثر ما كُتب عن الزلزال، ممن عاشوا ويلاته، أو ممن تابعوا تداعياته؛ فكثيرون كتبوا عن محاسن الأموات، وأقلّ منهم مَن كتبوا عن محاسن الأحياء في الزلزال؛ ولكن.. نحزن لِـمَا مرّ؛ لمَن فقَدْنا ولما فقَدْنا، ولكنّ الذكرى الأولى لزلزال شباط وما عشنا فيها من أحزان وما راجعنا معها من شرائط الأحداث تكشف لنا عن زلازل ليست بأقل من ذاك الزلزال تدميراً، ونتائجه ليست بأضعف من تلك تأثيراً.
وهذه نِظرة في بعضٍ منها، مع مقاربات بما عشنا منذ عام ونعيش حتى اليوم وإلى سنوات لاحقة.
كشفَ زلزال شباط 2023 المدمّر عن فضائح كثيرة في المباني التي انهارَ بعضها وتبخّر تماماً بعضها الآخر، وبعد التحقيقات والتحليلات وُجد أنّ:
- منها ما أُقيم على أراضٍ زراعية لا تصلح للبناء السكّنيّ.
- ومنها ما عبثَ المقاولون في مقادير المواد الموضوعة في الأصول، أو في معايير السلامة والنجاة. فكم من مبنى عتيق صمدَ للزلزال ونجا أهله!! وكم من مبنى جديد مزركش انهارَ بأهله فقضَوا!!
فلو أننا نظرنا في واقعنا السوري لمراجعة بعض ما يحدث في الشمال الذي حُشر إليه السوريون المعارضون من كل المحافظات، فأربى عددهم على خمسة ملايين؛ هل نصدّق أن الحل في مؤتمر عن الاستثمار مثلاً؟
لا يجادل سوريّ حرّ في الرغبة بنهضة الشمال المحرر، وفي استقطاب رؤوس الأموال والخبرات إليه؛ ولكن... أين الأرضية المناسبة للاستثمار؛ ومناطق الشمال كلها تهتزّ بأهلها إن لم يكن من قصف الأسد وحلفائه فمن عصابات قسد أو من نزاعات الفصائل!!
وأما مسالك النجاة عند الاختلاف فغير آمنة؛ إلا عند مَن يتعامى عن الهجمات العائلية والفصائلية على السجون عند صدور حُكم لا يروق لهؤلاء أو أولئك دون النظر في الجناية!! فإن كانت هذه الهزّات التي تنسف الاستثمار مثار جدل فلْنصرف عنها النظر!!
هل هذه أرضية مدرسية يُراهن على مخرجاتها في البناء والمتابعة الصحيحة؟ وهل هذه هندسة متعقلة للسياسات التعليمية والتربوية في مناطق المحرر؟!
فأيّ تحرير للشمال وأيّ إعمار ونحن ما زلنا في أرقام مرعبة من التسرب الدراسي، ونسبة لم تشهدها سوريا من الأمية!! وهذه أضعف أرضية يمكن بناء الشمال عليها؛ لأنها فاسدة بغير اعتبار، فمَن يعلّم والمعلّم أسوأ العاملين أجراً وأضعفهم مكانة وقدراً!! وأي جيل يبني البلد وهو جاهل يقفز الدراسة بالمظلات؛ يُمسي في التاسع ويُصبح في الثانوية، ويأتي الجامعة بشهادة من إحدى عدة شهادات تعرفها المنطقة؛ فشهادة من الحكومة المؤقتة لا تعترف بها الجامعات التركية في الداخل، وشهادة من المجالس المحلية تلزمها معادلة حتى تسجل في جامعات المؤقتة!! والمدارس تحت إشراف المجالس المحلية فلا يُسمح لوزارة التربية والتعليم بدخولها للإشراف والمتابعة؛ فهي وإن كانت تمشي فعرجاء يسترها عدم وجود بديل، حتى انتعشت المدارس الخاصة وزادت على عدد المدارس العامة وفاقت بعضها الجامعات في الرسوم!!
فهل هذه أرضية مدرسية يُراهن على مخرجاتها في البناء والمتابعة الصحيحة؟ وهل هذه هندسة متعقلة للسياسات التعليمية والتربوية في مناطق المحرر؟!
أليست هذه المقدمات أخطر للزلزال الذي قد يضرب الشمال مما يحكونه من تنبؤات عن زلزال إسطنبول القادم المدمر؟! فإن كانوا يتحضرون بمشاريع عملاقة لمواجهة الزلزال المتوقع هناك؛ فماذا نصنع لمواجهة ما قد يقع من زلازل عندنا بسبب ضعف التعليم؟!
ولعل الحديث في التعليم يقترب من الاستثمار والسياسة؛ فلنأخذ نظرة في جهة أخرى!
جاء مسؤول اجتماعي في منطقة من مناطق الشمال مذعوراً يشكو ارتفاع نسبة الطلاق في المنطقة إلى حدود 60%؛ وله الشكر على فزعته وهو تركيّ، وعلى سعيه للبحث عن حلّ لدى الجهات التربوية والنفسية المختصة؛ ولكنه زلزال مدمّر بحقّ، فما الذي انتهى بنا إلى مثل هذه النسبة المرعبة ونحن لعقود لا تعرف كثير من مدننا حالات الطلاق بأكثر مما يُعد بأصابع يد واحدة!!
وكنت سمعت من مسؤول أوروبي سوري عن نسبة أعلى للطلاق بين السوريين في دولة من الدول الأوروبية قبل سنوات؛ مما حمل الدولة ذاتها على الاستعانة بخبراء من السوريين أنفسهم ومن الدولة لدراسة ذلك، مما يكشف زلزالاً واحداً مما يهزّ السوريين اللاجئين في الدول الغربية؛ سواءٌ أقرّ به الفرحون بنعيم أوروبا أم أنكروه!! وما زلزال تفريق الأبناء عن أهليهم، ولا تغيير ديانة بعضهم طمعاً بإقامة، ولا جنوح آخرين عند حصولهم على الجنسية ضد إخوتهم بأقل دماراً وإضراراً.
إن المشكلات الاجتماعية التي يئنّ السوريون تحتها في الداخل والخارج لا تخرج عن ثلاثية تدمير الزلزال؛ فلعل هزّة/ زلزال يضربُ علاقة ما، فتفضح لك هشاشة الأرض التي تُقام عليها العلاقة
ولنرجع إلى حديث الأرضية التي تُقام عليها تلك المباني التي تنهار وتقتل وتشرّد العوائل؛ فكم من عقود تمّت على أجانب لا تُعرف أسماؤهم، فهم حتى عند زوجاتهم وأهليهن: أبو فلان وأبو علان!! حتى انتهينا إلى بضعة آلاف من الأطفال مجهولي الآباء اسماً وهويةً ومصيراً. وأما زواج الصغار فذاك بابٌ عريضٌ للاتهام؛ فإن قلت: "احذروا" رُميتَ بالمروق، وإن قلت: "افعلوا" رُميتَ بالتعدّي على الحريات والحقوق؛ وبعيداً عن التشنّج من هؤلاء وأولئك: لتكن أرضية صالحة للبناء الزوجي ثم افعلوا؛ وإلا فإن هزّة متوسطة لا زلزالاً مدمّراً تكفي لتسوية ذاك البناء بالأرض وبعثرة أحلام ساكنيه.
إن المشكلات الاجتماعية التي يئنّ السوريون تحتها في الداخل والخارج لا تخرج عن ثلاثية تدمير الزلزال؛ فلعل هزّة/ زلزال يضربُ علاقة ما، فتفضح لك هشاشة الأرض التي تُقام عليها العلاقة؛ فلا يكون الخطأ في البناء، بل في اختيارك الأرض غير المناسبة! أو أنك اخترتها أرضاً مناسبةً؛ لكنك عبثت في المواصفات فاضطربت في بناء العلاقة ذاتها تزيد شيئاً أو تُنقص، والزيادة في العلاقات لا تختلف عن النقصان! أو أنك وُفّقت في اختيار الأرض وهندسة العلاقات؛ لكنّك قصّرت في مسالك النجاة عند الخلاف، فكان مَقتلك أنكما لا تُحسنان إدارة الخلافات والمشكلات، فيكون انهيار عند هزّة تافهة!
في ضوء ذلك لا تَعجب من صلابة علاقات الآباء والأجداد رغم ملامحها الباردة، ومن تفاهة كثير من علاقات الأحداث رغم بهرجها وزخرفها!
ومع ما رأينا في ذكرى الزلزال في تركيا من تحقيق وعود بالإعمار وتسليم المساكن لأصحابها؛ نُكبر ذلك، ونستحضر أن مشاريع "إعادة الإعمار" من أصعب المشاريع في حياة الدول والأفراد؛ وكم كان يردد الكبار: الخراب سهل؛ ولكن التعمير صعب. ومع صعوبة إعادة إعمار المباني وارتفاع الكلفة فيها؛ فما أهونها أمامَ إعادةِ بناءِ جيل يُدمّر وإنعاشِ قلوب تُحطّم!
وحتى نحفظ بلدَنا والسوريين حيثما كانوا من الزلازل لابد من التدقيق أكثر في حياتنا الاجتماعية وما يضطرم داخلها من مشكلات تهدّدنا بويلات أشد مما عشناه في زلزال شباط 2023، ولابد كذلك من الإقرار بإيمانٍ وصدقٍ أنه بالتعليم نُعيد الإعمار؛ فلا تحرير ولا استثمار ولا بناء دون تربية صحيحة وتعليم قويم.