رئيس اتحاد كتاب النظام السابق يغادر سفينة التشبيح ملفوفاً براية الإهمال والتجاهل

2024.05.11 | 05:44 دمشق

555555555555555555555557
+A
حجم الخط
-A

رحل قبل أيام مهملاً، منبوذاً الدكتور نضال الصالح الذي كان رمزاً من رموز التشبيح في سوريا وحلب عموماً، وبصفته أستاذاً جامعياً يعمل في النقد الأدبي، فقد حاول أن يؤسس أرضية فكرية فلسفية للتشبيح لمصلحة النظام السوري، كي يبدو تشبيحه مختلفاً واحترافياً وليس ناجماً عن حالة ببغاوية.

ومثل هذه الأرضية الفلسفية بالهروب من الواقع، من خلال التغني بتاريخ سوريا، والإساءة لمن طالبوا بالحرية والديمقراطية ينسجم مع حالة نفسية كان يعيشها نضال الصالح نفسه طوال عمره، وكانت جلية لمن حوله، ألا وهي محاولة الهروب من خلفيته العائلية الفقيرة، عبر منجزات شخصية كتابية، وعلاقات ثقافية عربية، يهرب بها إلى الأمام كي يحقق شيئاً من أحلامه ويعالج أمراضه النفسية، التي كان على وعي شديد بها. حيث لا يقبل إلا أن يكون أولاً أينما حط به المقام، حتى لو كانت جلسة مقهى، أو بار، على ما كلفه الركض طول العمر ليكون أولاً من تعب وجهد وضنك، وخروج عن الأساسيات الأخلاقية التي يحتكم إليها البشر مرات كثيرة، وتخل عن أسباب السعادة والهناءة نتيجة اللهاث المستمر.

كان اللوبان والشعور بالظلم نتيجة عدم أخذ المكانة التي يرنو إليها قد جعلا حياته تتحول إلى سواد ومجموعة معارك متتالية، خاصة أنه ربط معظم تفاصيله بها، ولم يهنأ للرجل بال ولم تقر له سكينة، لأن النار المشتعلة داخله جعلته كائناً غير مستقر، راكضاً دائماً وأبداً خلف مجد ينتظره، هناك خلف الأفق!

حين بدأت ثورة عام 2011 كان من المفترض (نفسياً) أن يكون نضال الصالح، الناقم على الجميع، صاحب المظلومية، أن يتخذ الثورة فرصة كي ينظف نفسه ويحقق أحلامه.

طرق "الصالح" باب الدراسات النقدية، والقصة القصيرة والرواية والكتابة الصحفية، وحقق في كل منها نجاحات ما، رعاها بالتعب والمتابعة والمثابرة، بل كان يريد أن يتميز، قبل انتشار الكمبيوتر، عبر خطه العربي الجميل، غير أن هذا الخط، كما يرى كثيرون استعمله في مرحلة ما من عمره للإساءة لزملائه وأساتذته وطلابه في جامعة حلب، إن لم يكونوا جزءاً من أحلامه، لأنه كان يرى أن النجاح في أحد جوانبه يكمن بسحق كل من يمشي معك على الطريق وحرقه، وسواء أصحت هذه التهمة أم لم تصح، وهي تستعمل سورياً بشكل كبير ومرات عدة تستعمل بهدف الإساءة للآخر، فإنها ليست بعيدة عن ارتداداته النفسية، وكان الرجل جزءاً من مشهد الخوف السلطوي الذي يحيط بمن صادقه أو رافقه أو زامله.

حين بدأت ثورة عام 2011 كان من المفترض (نفسياً) أن يكون نضال الصالح، الناقم على الجميع، صاحب المظلومية، أن يتخذ الثورة فرصة كي ينظف نفسه ويحقق أحلامه. غير أنه (كما قال حرفياً)، حين وجد أن هذه الثورة ثورة عامة وليست ثورة نخبة وليس لديها آباء فإنها لا تمثله، وتابع نضال في إطار حوار شخصي: لو أن هذه الثورة كان لها منظرون ومرجعيات لهم مكانتهم لفكرت في الأمر! يريد أن يفصل ثورة على مقاس طموحاته تكون محطة علاج نفسي له.

لم يطل الأمر بنضال الصالح، فالفرصة سانحة للوصول وتحقيق الأحلام المتعلقة بتجاوز الطبقة الاجتماعية وتحقيق الأهداف الشخصية بالانتماء إلى النخبة السورية، التي لها تقاليدها وروادها ومؤسسوها، لذلك قفز بصوت واضح نحو مركبة النظام وهو الذي لم يغادره رغم مسرحياته الشخصية التي تنتظر الكفة، متناسياً اشتراطاته المناصبية في البداية، التي إن تحققت فإنه سيبدأ في التشبيح، غير أن المخابراتيين قالوا له: ابدأ بالتشبيح والمناصب تحصيل تشبيحي حاصل!

مرحلة وهج الثورة السورية قد جعله خلال فترة قصيرة يصل إلى مرتبة معاون وزير الثقافة ورئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا وخلف كلا المنصبين ألف صديق وعشرة آلاف عدو.

وهكذا كان نضال الصالح أحد أبرز النماذج التي رفعها النظام السوري حين كان محتاجاً إليها. ثم هوت دفعة واحدة بحيث إن الجميع تخلى عنها، حيث مات بهذه الطريقة، مهملاً منبوذاً مريضاً، لأنه لم يقبل أن يكون عادياً، فالعدائية والشعور بالتميز الفردي الموجودتان في داخله تمنعانه من التسليم في الأمر الواقع لذلك فضل أن يكون صديقاً للمرض والعزلة على أن يكون صديقاً للتسامح والحياة، مستشعراً كل لحظة تلك النهاية التي لم يتوقعها أعداؤه ذاتهم.

أحلام نضال الصالح المناصبية لا حدود لها، ورغبته بتجاوز الشروط التاريخية لحجم حضور الأفراد في مجتمع معقد مثل المجتمع السوري كبيرة جداً، غير أن نضال فاته هذه المرة كما في مرات سابقة الذكاء وحسن قراءة الواقع السوري المعقد، وظن أن الترحيب المخابراتي المؤقت به نتيجة الحاجة التاريخية له، وتشجيع بشار الأسد له شخصياً سيحميه ويجعل بطاقة (وزير الثقافة) محجوزة له في أول تغيير وزاري في سوريا، خاصة أن مرحلة وهج الثورة السورية قد جعله خلال فترة قصيرة يصل إلى مرتبة معاون وزير الثقافة ورئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا وخلف كلا المنصبين ألف صديق وعشرة آلاف عدو.

غير أن الغلط الأكبر الذي ارتكبه نضال الصالح كان بنقله ملاكه الجامعي الوظيفي من جامعة حلب إلى جامعة دمشق، حيث إن "حيتان جامعة دمشق" لن يسمحوا لهذا القادم من جامعة حلب أن يتجاوزهم، ويحجز مقعد الوزير الذي كان عُرفٌ من نوع ما يقول "إن لجامعة دمشق دائماً وزيراً ما"، نسي نضال الصالح نفسه، حين رحبت به الأجهزة الأمنية وموظفو القصر الجمهوري وشجعوا تشبيحه، واعتقد أنه يمكن أن يدخل الجامعة كرئيس اتحاد كتاب عرب، لم يلق الرداء المناصبي خارجاً، ويعود للإطار الأكاديمي حين يكون في الجامعة، بل أخذته العزة بالإثم المناصبي، ومن هذه النقطة بالذات تسلل أعداء المناصب له، وهم أصحاب خبرة في المقاولات والأبحاث والمناصب تفوق خبرة نضال الصالح كثيراً، فورطوه بما هو بعيد عنه كلياً، بحيث كانت أنفته واعتداده بنفسه وتميزه النقدي تمنعه من أي سرقة بحثية، أو الوقوع في أخطاء المبتدئين (تقتضي الأمانة أن نقول ذلك).

لم يدرك نضال الصالح أن في الساحة السورية الموالية والمعارضة شخصيات تدفعك إلى الأمام لتلتهمك وتحطمك وتتخلص منك وتكيد لك وتشوه سمعتك والشواهد كثيرة من إسطنبول إلى الخليج إلى دمشق.

ونتيجة استعجاله الترفيع الأكاديمي واغتراره المناصبي والتاريخ التشبيحي الذي حسب أنه سيحميه أوقعوه في الخطأ الذي تحاسب عليه أنظمة الجامعة، وحركوا عليه ملف مجلس التأديب، وهم خبراء في ذلك، تدعمهم مناصبهم الحزبية وشبكة علاقاتهم العميقة في عالم المؤسسات السورية.

انتظر نضال الصالح الغوث من بشار الأسد مستذكراً تاريخه التشبيحي النضالي وكيف أنه أحضر عدداً من رؤساء اتحادات الكتاب العرب في ذروة المقاطعة العربية، وأنه كتب مئات المقالات التي تشيد بالجيش والنظام وسفالاته وكتب القصة والرواية وكان زعيماً لتيار التشبيح الفكري، غير أن رئيسه تركه يتلوى بسم المؤامرات الوظيفية، تاركاً للمؤسسات أن تأخذ قرارها، في وقت يريد أن يقنع نفسه أنه بلد مؤسسات وأنظمة، وهكذا استقال نضال الصالح من رئاسة اتحاد الكتاب مفضلاً مواجهة قدره الجامعي الذي يضع في مرات كثيرة الاستقالة نهاية لمحاكمة مجلس التأديب، بعد أن نجح أعداؤه في الجامعة في إثارة البلبلة حوله، مستغلين أخطاءه ونهمه وثقته بذاته!

لا شك أنه بوفاة نضال الصالح تطوى إحدى الصفحات التشبيحية المهمة في تاريخ التشبيح من قبل النظام السوري من جانب ثقافي وفكري ومناصبي، خاصة أنه كان نموذجاً من النماذج المخلصة للتشبيح والمؤمنة بأن خيارها، كي تبقى في حالة انسجام، هو الخيار الصحيح لذلك لم يتورع بمهاجمة كل من أخذ خيار الثورة السورية من زملائه السابقين، بل وراسلهم عبر "الماسنجر" مباشرة أو بأسماء صبايا كي يسيء لهم ويعريهم ليشعر أنه متميز عنهم، فقد كان عبر تاريخه ممن يفجرون في الخصومة، وتضع كل الضوابط الأخلاقية حين تكون عدواً له، وما أكثر أعداء نضال الصالح الذي يعد من النماذج السورية التي كانت ترى تميزها يكون بالوقوف مع الأقوى، إن سمح لها هذا الأقوى بتجاوز شروطها التاريخية، وقد حاول الرجل، من قبل، عبر الزواج، كذلك بالانتماء إلى جهة الحكم في سوريا، والاقتراب من أجهزة النظام التي كانت تعيد صياغة المشهد السوري!

كان في أعماق نضال الصالح مظلومية عالية، فتجده تارة يكاد يبكي كطفل صغير في جلسة خاصة، لكنه في الوقت نفسه يستعيد نبرة صوته ذات "التون الواحد" وضحكته اللئيمة ليقول لك: لن أنكسر، وهو الذي ما فتئ يستولد الأعداء ويحيك المؤامرات أو يرد على المؤامرات كما يقول، وقد تحولتْ حياته الجامعية والعامة وفي اتحاد الكتاب إلى ساحة حرب مصغرة يكمل بها حياته ولا يكاد أن يعيش دونها.

في ظنه أن البلد بقي ولم يتهدم عمرانه الديموغرافي والاجتماعي إضافة إلى عمرانه الحضري والريفي!

في الوقت نفسه كان السارد فيه يقدم ألواناً من الوجع السوري العميق، قبل ثورة عام 2011، فتجد أن هناك الكثير من نقاط التعاطف والالتقاء معه إنسانياً، غير أنه في لحظة عاجلة سرعان ما يلدغك ويمشي، وقد كنت تحسب أنك حصنت نفسك من لدغاته، وهذه اللدغات قد تصل إلى أساتذته أو مجايليه أو طلابه أو زملائه، وهو ذاته لا يعرف ماذا حدث معه ولماذا، إنها العدائية والسُمية التي تغلي في داخله!

هذا الإشكال النفسي الذي كان بادياً في شخصية نضال الصالح بوضوح شديد، لا يعفيه من المسؤولية لأنه اختار الخيار الأخلاقي والفكري الخاطئ حين كان لدى السوريين فرصة أن يكونوا أحراراً. فاختار عن وعي وسعي لمنافع، خيار التشبيح مدعماً إياه برؤى فكرية وثقافية كي يبقى منسجماً مع نفسه، لكن هذا الخيار كان وبالاً عليه بحيث رحل وهو يتلوى إهمالاً وتجاهلاً، حيث ينظر إلى المستفيدين من النظام، مردداً صباح مساء: لولا دفاعي عنكم وأثري ودوري وأفكاري لما بقيتم ولما بقي البلد، ففي ظنه أن البلد بقي ولم يتهدم عمرانه الديموغرافي والاجتماعي إضافة إلى عمرانه الحضري والريفي!