"يحيا الشعب" تكثيف الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟

2021.08.04 | 06:34 دمشق

photo6026243337591304535.jpg
+A
حجم الخط
-A

باسم الشعب تصدح لطيفة التونسية بأغنيتها الجديدة (يحيا الشعب… يسقط كل عدو الشعب) التي أصدرتها على عجل تزامنا مع ما يعزفه قيس سعيّد اليوم باسم الشعب بالرغم من أنه جمد على حين غرّة وعلى عجل أيضاً مجلس الشعب! وعلى إيقاع ما ورَّثَه السيسي للشعب يومَ أغلق منافذ الحياة على رئيس منتخب من قِبَل الشعب! ومتناغمة بنشازها مع رائحة الموت لمجازر بشار الأسد الذي نفذها باسم  الشعب! فضاعت كلمة الشعب وأصبحت كعلكة منتهية الصلاحية، وفقدت معناها الإنساني والجغرافي والتاريخي وحتى الأنثربولوجي وضاعت مدلولاتها الاجتماعية والإنسانية والوطنية والقومية وهي تتناثر بين تلك الأفواه بلا صدى ولا أثر لتستقر متخذة شكل شعبوية على هامش قاموس السياسة والسياسيين.

حاول كثير من الكتاب أن يقاربوا تعريفاً نظرياً للشعبوية من حيث إنها حالة أو فكرة سياسية ترى أن شعباً متجانساً يقف دائما ضد نخب غير أخلاقية وفاسدة، وأن هذه النخب أبعد ما يكون عن الشعب لأن جوهر فكرة الشعبوية هي في التعبير "نحن" ونحن فقط من يمثل الشعب الحقيقي لا "هم"، ومن هذا المنطلق ينتهج الشعبيون طرقاً وأساليب تتوافق مع ادعائهم التمثيل الحصري للشعب يسيطرون من خلالها على مراكز الدولة الرئيسية، وقمع ما يمت بصلة للمجتمع المدني وعلى رأس القائمة الإعلام، ومحاولة تشويه المعارضة والنخب بإلصاق تهم اللاوطنية بها والزعم أنها موالية للخارج.

ما يحدث في تونس اليوم دفعني لمراجعة كتاب عزمي بشارة في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية وخاصة الفصل الخاص بتونس حيث يغوص بشارة في تفاصيل الأرقام والمنحنيات البيانية معتبراً الشعبوية آفة تبرز بشكل كببر في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وينبه إلى خطورة الشعبوية في مرحلة ترسيخ الديمقراطية، ولم يكن هذا التحذير الذي أطلقه بشارة موقفا عاطفيا أو رؤيا نظرية تستطلع أو تتنبأ التحولات الممكنة في ظل التحول الديمقراطي في تونس بل كان تحذيرا نابعا من دراسات إحصائية وأرقام تنبئ بالكثير حول مستقبل ما يدور في هذا البلد.

لم يكن بمقدور وسائل الإعلام حتى ضمن الحالة الديمقراطية وما يتيحه لها جو الحرية أن تؤجج الخطاب الشعوبي لو لم تجد الأرضية الخصبة في بعض الممارسات للنخب السياسية التونسية

وبناء على المخطط البياني الذي يبين معدل النمو الاقتصادي في تونس يتوصل بشارة إلى "أن نمواً سلبياً حصل في الأعوام التي تلت الثورة مباشرة، ولكن آثاره الاجتماعية والسياسية استمرت بعد استعادة الاقتصاد عافيته وذلك بسبب وجود قوى سياسية معارضة ووسائل إعلام تواصل الدعاية السياسية حول تدهور الأوضاع الاقتصادية".

وبالتأكيد لم يكن بمقدور وسائل الإعلام حتى ضمن الحالة الديمقراطية وما يتيحه لها جو الحرية أن تؤجج الخطاب الشعوبي لو لم تجد الأرضية الخصبة في بعض الممارسات للنخب السياسية التونسية "ولا سيما مع ظهور أحزاب وانشقاقها وانقراضها بالسهولة نفسها، ونشوء ظاهرة البرلمانيين الذين ينتقلون بين الأحزاب بسبب الصراع على الزعامة داخل الحزب أو لضمان مقعد في الانتخابات القادمة".

وبناء على هذا وكما يبين بشارة "نشأ لدى فئات واسعة الانطباع الذي يشكل فريسة سهلة للشعبوية وهو أن السياسيين يعملون فقط لمصلحتهم، وما البرلمان سوى فضاء لصفقاتهم"؛ ويمكن القول إننا لو تتبعنا التحليلات التي توصل إليها بشارة اعتمادا على الإحصاءات في تشخيص الحالة التونسية لقادتنا تلك التحليلات ومن خلال مسارها وتعرجاتها إلى اللحظة الراهنة وإلى ما يحدث اليوم على الساحة التونسية، ففي تحليل للرسم البياني الذي مُهر تحت اسم مدى ثقة التونسيين بمؤسسات دولتهم يتوصل بشارة إلى "أن ثقة التونسيين بمجلس النواب هي الأدنى بين سلطات الدولة.. وهو ما ينم عن خيبتهم من تصرفات النخب السياسية" وهذا يعني بالضرورة ترعرع وانتعاش البيئة المناسبة والسماد الضروري للشعبويين كي يعلو خطابهم ويُقنع أكبر عدد من فئات الشعب ولا سيما الأوساط الأكثر فقرا وذات التوقعات الأعلى من الثورة.

وبالرغم من الإيمان بمقولة إن النظام الديمقراطي، وإن كانت له مشكلاته، هو أفضل من غيره من الأنظمة مازال يحافظ على مستواه تقريبا حتى عام 2018 إلا أن المؤشرات التي اعتمد عليها بشارة والتي تبين ازدهار البنية التحتية لنمو الشعبويين كثيرة، ومنها جداول ومنحنيات إحصائية تبين تطور اتجاهات الرأي العام التونسي في قضايا جوهرية تؤثر بشكل كبير في لحظات التحول الديمقراطي واستدامته، فالإجابة على سؤال فيما لو تسلم حزب سياسي لا يتفقون معه السلطة، إذا حصل على عدد أصوات تؤهله لذلك ضمن انتخابات حرة ونزيهة تبين "تراجع الموقف الديمقراطي على نحو ملموس عند امتحانه واقعيا في مسألة تداول السلطة مع حزب يخالفه المستجيب للرأي".

ويأتي مؤشر اتجاهات الرأي العام التونسي نحو نوع النظام السياسي الذي يفضلونه أو الأكثر ملاءمة لبلدهم ليؤكد ما توصل إليه بشارة من أنه "في الديمقراطيات الوليدة في الدولة النامية وبعد نجاح ثورة في إسقاط نظام سلطوي، والاستبشار بقدوم الديمقراطية.. غالباً ما تنتشر حالة من الخيبات وعدم الارتياح الشعبي من النظام الديمقراطي.. والمشكلة أن المواطنين في هذه الدول لم يعتادوا التمييز بين الحكومة والنظام السياسي ما ينذر بتحول النقمة على الحكومة إلى موقف من النظام "وفعلاً بيّن المؤشر بالأرقام" تراجع ميل المواطنين التونسيين للنظام الديمقراطي باعتباره أكثر الأنظمة ملاءمة لبلدهم عندما يطلب منهم الاختيار من أكثر من نظام حكم".

كل هذه المؤشرات ومنها التراجع المبكر للمشاركة السياسية ونتائجها التي أظهرت تشظي الحالة الحزبية في البرلمان جعلت بشارة يستشعر الخطر ويحذر من سلبية الجمهور المتزايدة في المرحلة المقبلة "إذا لم تصبح هذه الإشكالية موضوع معالجة فورية، سواء أكان ذلك في سلوك الأحزاب بمسؤولية أكبر أم في تعامل الإعلام على نحو أكثر مسؤولية مع البرلمان والأحزاب".

الحالة الشعبوية تجلت بوضوح في رفض السياسة والسياسيين وتشظي الحالة الحزبية وغياب النقد بالبرلمان وتجسد التطلعات الشعبية في شخص المرشح للرئاسة باسم الشعب

ويُصعّد عزمي بشارة من تحليلاته وتوقعاته إلى درجة وكأنه يتحدث في كتابه الصادر عام ٢٠١٩ عما يحدث في تونس اليوم حيث يقول: "كشفت الانتخابات الرئاسية المزاج الشعبوي بوضوح، إذ تمثل في فشل المرشحين الحزبيين والمسؤولين الحكوميين المعروفين في الجولة الأولى، وبلوغ مرشحين من خارج الأحزاب المعروفة في الجولة الثانية من دون أن يمثلا برامج سياسية معروفة للناس بل تواصلا مباشرة مع الجمهور، إما عبر العمل الخيري في حالة رجل أعمال مالك وسائل إعلام متهم بالفساد، وكذلك في حالة أستاذ جامعي.. وكان التركيز على مسلكه الشخصي و"نظافة اليدين". والنظافة هنا استعارة شعبوية رائجة توضع في مقابل "تلوث السياسة"".

ويؤكد بشارة من مخرجات تحليله عما كشفت عنه الانتخابات الرئاسية "أن الحالة الشعبوية تجلت بوضوح في رفض السياسة والسياسيين وتشظي الحالة الحزبية وغياب النقد بالبرلمان وتجسد التطلعات الشعبية في شخص المرشح للرئاسة باسم الشعب".

وبرغم قتامة الصورة التي تطغى عليها ألوان الشعبوية وخاصة في رأس الهرم السلطوي ينتهي بشارة باستنتاج أو أمل أو ربما دعوة ونصيحة للحفاظ على الديمقراطية في تونس حيث يقول: "في ظروف الانتقال الديمقراطي التي تعيشها تونس ما زال ضمانا الديمقراطية التونسية الرئيسان يتمثلان بعزوف الجيش عن السياسة، والتزام القوى السياسية والمؤسسة الحاكمة بالدستور الديمقراطي".

وهنا والآن وفي خضم الأحداث والتطورات الجارية في تونس يبرز السؤال القاسي في وجوهنا، هل ما زال الجيش عازفا عن السياسة وهل ما زالت المؤسسة الحاكمة مؤتمنة على الدستور؟؟!!!