"ومن الحب ما قتل".. عن منظمات "المجتمع المدني السوري"

2021.04.25 | 07:41 دمشق

images.jpeg
+A
حجم الخط
-A

خلال السنوات العشر الفائتة، لم يبق "فتقٌ" في الحياة السياسية والاجتماعية السورية، دون "رتقه" بتأسيس منظمة من منظمات "المجتمع المدني"، التي تناسلت تناسلاً  سرطانياً، ترافق بظهور "سيل عرمرم" من المقالات، والدراسات، والأبحاث، التي لم يكلف - معظم - أصحابها أنفسهم، بالمطالبة بتوجيه بوصلة عمل هذه المنظمات والهيئات المدنية، ونقدها بموضوعية، تساهم في تخليصها من الاشتباه بجدواها، والشكوك التي تحوم حولها، وحول الذين يقودونها، ومصادر تمويلها، مكتفين بالمدائح، والمقارنات المكرورة عن غيابها في ظل نظام البعث وعائلة الأسد، مكثرين من الاتكاء على تنظيرات "ملطوشة" من كتب انحازت، وأكدت على الدور "الإيجابي..!"، الذي يمكن لمنظمات المجتمع المدني القيام به، في حركة تقدم الشعوب.

في المبدأ، نتفق مع الذين يتحدثون عن أهمية دور هذه المنظمات في سعينا نحو "دولة المواطنة الديمقراطية المدنية المبتغاة/المشتهاة"، إلا أنه لا يجب أن نتحاشى قراءة واقع حالها، والإشارة إلى الدور السلبي لبعضها، وإلى تحول بعضها الآخر إلى "دكاكين" تكسب للقائمين عليها، إلى الحد الذي وصل، بالبعض منهم، القيام بتقديم خدمات "استخبارية" مشبوهة للجهات الداعمة، تتخطى الدور المفترض الذي يجب القيام به.

خلال السنوات العشر الفائتة، قرأنا مقالات كثيرة في الصحف، ووسائل التواصل الاجتماعي، تتحدث عن تمويل جهات أجنبية لبعض المنظمات المدنية، ليس تلك التي ظهرت بعد قيام الثورة السورية فحسب، بل حتى تلك التي ظهرت – على قلتها- في ظل نظام الأسد، وأشارت تلك المقالات إلى مبالغ نقدية كان يتقاضاها بعض "رموز" هذه المنظمات، بل ووصل الأمر إلى التكفل بدفع الرواتب لعوائلهم، عندما سجنهم النظام، وهذه المعلومات لم ينكرها القائمون على تلك المنظمات.

وإضافة إلى خلو ساحة "المجتمع المدني" من منصات مدنية أسست بتمويل وطني ذاتي، لوحظ أن كثيراً منها كانت منصات "مناسبات"، بمعنى أنها تظهر في مناسبة ما، ثم تختفي، أو "يُرفع نشاطها على الرف" مع انقضاء المناسبة، ليعاد أحياؤها عند بروز حاجة جديدة لها، ويظهر ذلك بوضوح في المنصات التي رفعت راية الدفاع عن حقوق النساء، أو تلك التي نادت بحقوق المثليين، ومثلها تلك التي عملت على تأسيس منصات إعلامية، خلت من الإعلاميين المحترفين...!

أذكر - على سبيل المثال - أنه في الأسبوع الأول لتحرير الرقة، وخروج آخر عنصر من عناصر نظام الأسد، ظهر نحو 150 منظمة من منظمات المجتمع المدني، بعضها استطاع تأمين الدعم، وبعضها الآخر أسس كي "يشحذ" دعماً يُقيت الأعضاء، الذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، وبعضها الآخر لم يستح من الإعلان أنه مدعوم من حزب حاكم في إحدى الدول الأوروبية، ومع ذلك لم تتجاوز قيمة ما قدمه من خدمات الألف دولار (- أين ذهبت بقية الدعم؟ - لا أحد يسأل ولا أحد يحاسب...!)، بل إن بعض أعضاء بعضها، ساهموا في تدمير مدينة الرقة، من خلال رمي شرائح إلكترونية تدل الطائرات على أبنية يوجد "الدواعشة" فيها، ليتبين لاحقاً أن أصحابها من ضحايا تنظيم داعش الإرهابي، وكل ما في الأمر أنهم لم يكونوا على علاقة طيبة مع "رماة الشرائح"، ومن حسن الحظ أنه لم يبق من هذه المنظمات، سوى عدد محدود، ارتضى أن يكون "بوقاً" للوحدات الكردية المحتلة ورعاتها، راضياً بالفتات المالي، الذي يرمى له، متكفلاً بإنجاز أنشطة فارغة المحتوى...!

الإشكالية الأبرز في عمل منظمات المجتمع المدني، هي نفسها، الإشكالية التي نعاني منها في مؤسسات العمل السياسي المعارض، كالفساد، وانعدام الشفافية المالية

كذلك نتذكر كيف أن وسائل إعلامية عالمية أوروبية وأميركية، نشرت تقارير موثقة عن منظمات مجتمع مدني، أسست بحجة حماية الأقلية اليزيدية، لكنها تحولت إلى مرتعٍ لابتزاز الباحثين منهم عن لجوء في أوروبا، من خلال تأمينه مقابل دفعات مالية، ومثلها حال قيام بعض الناشطين بالإعلان عن "جمعيات" أمنت لهم لجوءاً سخياً، مترفاً، وانتهت مع اكتمال معاملات لجوئهم...!

الإشكالية الأبرز في عمل منظمات المجتمع المدني، هي نفسها، الإشكالية التي نعاني منها في مؤسسات العمل السياسي المعارض، كالفساد، وانعدام الشفافية المالية، وكثرة المؤتمرات، التي لا تثمر نتائجاً، أكثر من بيانات هزيلة، وتُرمى مقرراتها في الأدراج، ساعة الخروج من الفنادق الفارهة، التي تعقد بها، إضافة لافتقادها الرؤية الوطنية، وعدم طرحها للمشاريع الاستراتيجية، والتحرك وفقا لرغبات الممولين، وخدمة مصالحهم، والمساعدة على توطيد تدخلهم، وكثرتها دون مبرر (الصحفيون مثلاً 5 منظمات، وحقوق الإنسان والنساء عشرات المنظمات..).

إن المبالغة في تقدير حجم ودور وتأثير هذه المنظمات، لا يعدو أن يكون، في أحيان كثيرة، نوعاً من التغطية على هامشية فعلها، بقصد إقناع الداعمين للاستمرار في دعمهم لمؤسسيها، والمقربين منهم.

قلة من منظمات المجتمع المدني (الخوذ البيض مثلاً) قدمت خدمات فعلية، تجعل من وجودها ضرورة، وتدفع للمطالبة باستمرار تقديم الدعم لها

إن الحديث عن ضرورة وجود منظمات المجتمع المدني، والانحياز لها، يجب أن يكون موضوعياً، يترافق بعدم "تقديسها"، والإشارة الدائمة إلى مواطن الخلل فيها، ومطالبتها بتصحيح أوضاعها، وآليات عملها، وهذا لا يتحقق إلا عبر جملة أمور لعل أبرزها:

  • التأكيد الدائم على تحقيق الشفافية في العمل، عبر الإعلان الشفاف عن مصادر التمويل، وحجمه، وأوجه صرفه، والتأكد من ذهابه كاملاً إلى مستحقيه.
  • التأكيد على ضرورة تأسيس هذه الجمعيات بالتمويل الوطني، كي تمتلك قرارها، وتتحاشى الخضوع لمطالب الجهات الداعمة، التي تراعي مصالحها، ولا تأبه كثيرا لاحتياجاتنا. وعند الاضطرار لقبول الدعم الخارجي، فيجب أن يكون مشروطاً باحترام الإرادة والحاجة الوطنية.
  • التخلص من "السماسرة" الغربيين والأميركيين، الذين يؤمنون الدعم، مقابل اقتطاع نسبة منه، واشتراط أن تكون العلاقة مع مؤسسات ووزارات الدول الممولة، وتحت شمس الظهيرة.
  • مراعاة أن تكون هناك احتياجات فعلية، وملحة لوجود هذه المنظمات. وأن تتوحد جهود المنظمات المتشابهة، بمنظمة واحدة تضم المختصين، والجديرين بتحمل المسؤولية، فلماذا هناك – على سبيل المثال – عدة منظمات للدفاع عن الصحفيين، ومثلها عن حقوق الإنسان، أو النساء.. و. و.!

عندما يتحقق ذلك، يمكننا الحديث - ساعتها - عن دور وطني لمنظمات المجتمع المدني، وضرورة وجودها، وأهمية دورها الخدمي والرقابي على التجاوزات، التي تحصل من قبل الأطراف السياسية، والعسكرية، وغيرها.

هل نتحدث عن أحلام...؟!

حقيقة الأمر، إن قلة من منظمات المجتمع المدني (الخوذ البيض مثلاً) قدمت خدمات فعلية، تجعل من وجودها ضرورة، وتدفع للمطالبة باستمرار تقديم الدعم لها. وهذا يجعلني أميل للإجابة بـ : "نعم إنها أحلام".. إذ يصعب في المدى السوري المنظور، التخلص من الخطايا، التي ارتكبتها منظمات كثيرة، صنفت نفسها منظمات "مجتمع مدني"؛ ولو كان المقام يحتمل، لعددنا عشرات بل مئات المنظمات والجمعيات والهيئات، التي ليست أكثر من "دكاكين تكسب وانتفاع"...!