وما أدراك ما (تشابه الأسماء)

2021.06.13 | 06:07 دمشق

hajz-llnzam.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام، أصدر "أحمد السيد"، وزير العدل في حكومة النظام السوري، تعميماً على القضاة والمساعدين العدليين، يهدف إلى تجنب أي توقيف ينتج عن تشابه الأسماء، ووجوب استيفاء البيانات الشخصية اللازمة كلها، وبالأخص الرقم الوطني الخاص بالمدعين والمدعى عليهم والموقوفين والمحكومين.

يوحي هذا الخبر (لمن يتفكر) بأن اعتقال مواطن سوري ما، ومحاكمته، وإصدار حكم عليه بالسجن والغرامة نتيجة فعل ارتكبه مواطن آخر، كان ساريَ المفعول في القضاء السوري، حتى قبل يوم واحد من تاريخ صدور هذا التعميم، أي يوم 6 حزيران 2021.. ونحن هنا نتحدث عن تشابه الأسماء ضمن نطاق القضاء السوري الذي يوجب على القاضي جعل الشك لمصلحة المتهم، وأن خيراً له أن يُطلق سراح تسعة متهمين موقوفين، مِنْ أن يُجَرّم بريئاً واحداً.. فما بالكم بما يحدث عندما يتعلق الأمر بعمل المخابرات!

عمل صديقي الظريف، ابن قرية "البَلّاطة"، المرحوم عبد الجبار المحمد، في الثمانينيات، سائقاً على ميكروباص يمتلكه أحد أبناء قريته، على خط إدلب - حلب.. وكان يسمع من زملائه السائقين، عندما يجلسون في كاراج الديناوي القريب من مقهى الملاخانة بحلب، قصصاً عجيبة عن المجتمع اللبناني، فهناك الحرية ضاربة أطنابها، النسوان ترتدي أجمل الملابس، و(بالقَرْعة وبالمزَلَّط)، والإنسان يمارس حريته في كل شيء، يأكل ويشرب، ويدخن.. وعن توفر البضائع حدث ولا حرج، فأنت تدخل إلى السوبرماركت، تشتري ما تشاء من أرز وسكر وخبز ومحارم، تدفع، وتحمل بضائعك وتخرج، دون أن تضطر للوقوف أمام باب صالة التجزئة، حيث الحَرّ والغبار وقلة القيمة، والغانم يدوس على قدميك، أو يلكزك في خاصرتك، ثم يأتي عنصر أمن عسكري (حقه فرنكين) ويحشّك للواقفين في الطابور، ويأخذ دورهم وحصصهم، ويحتقرهم، وينقلع.. والشغل هناك، في لبنان، لأبي موزة، والمصاري "دوكمة"..

كان عبد الجبار يسمع هذه الأخبار ويتلمظ، ويحلم بأن يكون ذات يوم في شوارع بيروت، ينطبق عليه غناء المطرب محمد مرعي (تسرح وتمرح واللحظ يجرح).. إلى أن جاء يوم، دخلتْ إلى كاراج الديناوي بحلب امرأة أربعينية ومعها ابنها الشاب، تريد استئجار ميكروباص يوصلها وعائلتها إلى بيروت، وعلى الفور تعومد عبد الجبار أمامها، وهو يقول:

- أنا أنا، أنا بوصلك..

ولئلا يسبقه أحد إلى التعاقد معها، راح يعدد لها مزايا ميكروباصه، واسع، ومريح، والقلطق قَلَّاب، ومكيَّف.. وعرض عليها سعراً لا يمكن أن يقبل به سائق ميكروباص آخر لسفرة طويلة كهذه.. وهي قبلت، بالطبع، وفي اليوم التالي كان صاحبنا يقود ميكروباصه باتجاه حمص، ومن هناك اتجه إلى نقطة الحدود السورية اللبنانية، حتى وصل إلى ما يعرف باسم "الأمن العام"، وجاء أحد العناصر وطلب منه ومن الركاب إبراز هوياتهم:

- اسمحوا لنا بالهَوَايا يا شباب.

جمعها منهم، ونزل إلى المكتب، وسرعان ما هجم قطيع من العسكر على الميكروباص، أنزلوا عبد الجبار من وراء الدركسيون باللكز والدفش والتحاشيك على والدته، وصعد أحد أفراد القطيع مكانه، ساق الميكروباص إلى زاوية من الباحة، أطفأه، وطلب من الركاب أن ينزلوا، ويتابعوا دخولهم إلى لبنان بشكل كيفي.. وأما صديقي الظريف عبد الجبار، فقد وجد نفسه مرمياً في غرفة صغيرة فيها أكثر من ثلاثين معتقلاً، سألوه بصوت واحد:

- أيش تهمتك عم؟

أجابكم والقهر يطفح من نفسه:

- والله يا عين عمكم ما في تهمة، ولكن الأقدار (كلفشتني) إلى هنا حتى أرى هذه الوجوه النيرة.

بعد خمسة أيام أخلي سبيل عبد الجبار، وأفهمه أحد الضباط أن اعتقاله كان بسبب تشابه الأسماء. وعندما لاحظ امتعاضه قال له:

- تضرب في شكلك المبعجر متل شكل التيس، ولاك أنت لازم تحمد الله على تشابه الأسماء، فلو كنت عبد الجبار المحمد المطلوب كنت راح تشوف نجوم الظهر شخصي. يللا انقلع ولاك.

ورفسه رفسة أوصلته إلى الباحة بطريقة الدَرْكَلة.

لم يكن الميكروباص موجوداً في مكانه، ولم يجرؤ عبد الجبار، بالطبع، على الاستفسار عنه، فقد يتلقى رفسة تعيده إلى الداخل.

مشى مذلولاً مكسوراً في باحة الأمن العام، لا يدري إلى أين يذهب، وإذا بشاب يركب موتوسيكلاً عرض عليه أن يركب وراءه. ركب دون أن يسأله عن السبب، وانطلق به الشاب خارجاً من مبنى الأمن العام، وراح يسير في طرقات ترابية متعرجة، وبعد وقت قصير أخذ يلاطفه، ويمازحه، وضيفه سيكارة، أشعلها وغب منها سحبة طويلة، وفجأة انفلت بالضحك، وحكى للشاب عن القطة التي لَفَتْ على دارهم في قرية "البلاطة"، قبل عشرين سنة، وصارت تأكل "الصيصان" التي تربيها والدتُه، وأمره أبوه، وقتئذ، أن يودّرها، (أي يدحشها في كيس من الخيش، ويربطه من الأعلى، ويضعه في خرج الموتوسيكل، ويسير في طرقات ترابية متعرجة، مثل هذه، ثم يفلتها في مكان بعيد عن القرية، فلا تستطيع العودة إلى القرية مهما حاولت). وقال:

- إذا مفكر تودرني متل القطة لا تبعد كتير، لأني بطبيعة الحال ما بعرف أرجع!

ضحك الشاب وقال له:

- ما في شي من هادا يا عم. أنا راح آخدك لعند الميكروباص تبعك.

وشرح له أن ضابط المخابرات المسؤول عن مكافحة التهريب في هذه المنطقة يشتغل بالتهريب، وعندما يوقف الأمن العام سيارة لمدة طويلة أو قصيرة، يستخدمها في نقل مواده المهربة، ومنها ميكروباصه الذي استمر مساعدو الضابط ينقلون بها طوال فترة توقيفه، ولكن دولابه الخلفي انبعج، فتركه العناصر في مكانه، ونقلوا بضاعتهم إلى سيارة أخرى..   

العبرة من هذه الحكاية، إذا لاحظتم، وردت على لسان ضابط الأمن العام حينما طلب من عبد الجبار أن يحمد الله على أن توقيفه وتهزيئه وبهدلته والأضرار التي لحقت بميكروباصه، كانت بسبب (تشابه الأسماء)! ففي سوريا التي تحتلها عصابة الأسد، يعتقل الناس بسبب آرائهم السلمية. ويعتقلون على الشبهة. ويموتون تحت التعذيب، وتنكر الجهة التي اعتقلته وأماتته وجوده لديها. ويؤخذ الأب مكان ابنه المطلوب المختفي، والمرأة بالنيابة عن أخيها، وتهان وتغتصب، وتحبل وتلد ويكبر طفلها في الزنزانة (كما في الحكاية التي رواها الراحل ميشيل كيلو)، والإنسان البريء المعتقل، الذي لا يعرف سبباً لاعتقاله، خلال وجوده، يدعو الله، ليلاً نهاراً، أن يكون سبب اعتقاله تشابه الأسماء!