ولادة دون ألم.. السوريون المهجَّرون بين ألم الفقدان وأمل النجاح

2021.07.31 | 05:09 دمشق

17342604_10158619245555727_6431138213461304494_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد انكسار أمل المتعجّلين من السوريين بولادة سوريا الحرّة خلال الأشهر الأولى من ثورة الكرامة في 2011، ثم انكسار أمل المتأنّين وقد حسبوا أن ولادة الدول بعد حمل الثورة يكون بالسنوات، فانتهى عقدٌ والمخاض يضرب البلد دون صيحة المولود المرتقب؛ بقيتِ العيون تترقّب والآمال تتأرجح كم ننتظر بعدُ حتى نشهد ولادة سوريا الجديدة، سوريا الحرية والكرامة.

كثيراً ما تُطالعنا صفحات التواصل بأخبار المواليد الجُدد؛ لا أعني مَن عجزت عوادي الدهر واللجوء والتشرد عن إسكات ماكينات الحمل والإنجاب فيهم هنا، ممن في المخيمات وممن في دول صاروا يخافون على تركيبتهم الديمغرافية من النشاط السوري!

إنما أريد هنا ما نسمعه من ناجٍ من جحيم الحصار وقد دفعَ "الوطن" أجرة الباص الأخضر البائس، فانتهى في الشمال يشتري بضعة أمتار يرمي عليها خيمته لا يُطرد منها؛ فيُعلن وقد بُعث من الموت: اليومَ وُلدنا من جديد!

ومِن طالبٍ حُرم دراسته لاعتقاله وتهجيره، ثم حقّقَ مرتبةً متقدمةً في الدولة التي لجأ إليها؛ فيقول: اليومَ وُلدت من جديد!

ومِن رَجلٍ كَسرت أجرةُ البيوت ظهرَه وطحنتْ عظامَه لسنواتٍ في مَهجره يشتري بيتاً مثل "مِفحص القطاة"، فيقول: اليومَ وُلدنا من جديد!

ومعه مَن يُفتح له بابٌ في الأرض كأنه من أبواب السماء، فيخرج له بوثيقة جديدة ترفع عنه تهمة "الجواز السوري" في المطارات، وتُعتقه من ذلّ طوابير سفارات النظام، فيتصوّر مع هويته الجديدة معلناً أنه: قد وُلد من جديد!

ومِن شابّ تحطمت أحلامه في بلاد الضباب بعد سنواتٍ قضاها في سجن يُدعى "الكامب"، فيعلن أنه تنصّر واعتنق المسيحية، أو أنه "مِثليّ" وكان يخشى على نفسه سطوة المجتمع؛ وقد تحرر ليُجاهر اليوم بما يريد فيقول: وُلدت الآن من جديد!

ومِن فتاةٍ نشأت مستورةً بحجاب من أوسط ما تحتجب به السيدات الكريمات مسلماتٍ وغير مسلمات، تُطلّ من نافذةٍ في بلدٍ خلف البحار تنزع الحجاب على الهواء مباشرة؛ تُعلن أنها بذلك: وُلدت من جديد!

ومعهم مَن يُحرم حريته لأنه طالبَ يوماً بالحرية، فيُخفى تحت طبقات الأرض، يخرج بعد سنوات إلى النُّور فيصرخ ليسمعه الكون بأسره: اليوم وُلدتُ من جديد!

وقريباً منهم مَن تطرحه رصاصة غادرة أو يهوي عليه برميل إجرام، فيذهب ببعض أطرافه ويدمّر حياته، ينهض من تحت ركام آلامه بعد حين ليعلن باكياً إن استطاع البكاء: قد وُلدت من جديد!

ولعله من القراءة الصحيحة لهذه الحالات التدقيق أكثر فيها؛ فهو ما يُعيدنا نحو ما كان يترقّبه السوريون عامةً بعد ثورة "الحرية والكرامة" من ولادة سوريا الجديدة الحرّة، والصرخات التي كانت تُطلق في أسماء "الجُمَع" خلال المظاهرات تبيّن ذلك؛ فهم لشدة شوقهم وترقّبهم لولادة سوريا الحرّة بعد عقودٍ من الحرمان كانوا مع كل بارقة أمل يحسبون الحمل قد تمّ، فاستحثّوا الأكراد حيناً فنادَوا "جمعة آزادي" في 20أيار 2011، ثم نادوا بالعشائر لتهبّ لمؤازرتهم بعد أن فتك بعض أبنائها بالمناطق الثائرة بسلاح النظام في "جمعة العشائر" 10 حزيران 2011، وأكملوا بنداء حاضنة النظام ليتركوا عصابة الأسد ويكونوا في مركب الحرية في "جمعة" صالح العلي/ الشرفاء" في 17 حزيران 2011، ولما تتالت الضربات والطعنات تعالت الصرخات في "جمعة لن نركع" 12 آب 2011، وفي "جمعة الصبر والثبات" 26 آب 2011، حتى وصلوا لقرار "الموت ولا المذلة" بتاريخ 2 أيلول 2011.

ومع تمادي نظام الأسد في إجرامه واستهدافه المتظاهرين واشتداد حملاته العسكرية والأمنية ضد المناطق الثائرة بسلميّة طالبَ السوريون المجتمع الدولي بالتدخل لحمايتهم من إجرامه في "جمعة الحماية الدولية" 9 أيلول 2011؛ دون أن يجدوا من المجتمع الدولي ما يرفع عنهم الظلم ويكفّ القاتل.

وكانت بارقة أمل كبيرة مع إنشاء المجلس الوطني السوري نهاية عام 2011؛ فانتعشت النفوس بأمل الحمل من جديد لولادة سوريا الحرّة، فأعلنها المتظاهرون "المجلس الوطني يمثّلني" في 7 تشرين الأول 2011، في أول تجربة سياسية معارضة تتكلم باسم السوريين الثائرين؛ لكن الأسد استمرّ في إجرامه، فنادى السوريون الجيش الذي خدموا فيه ويبذلون له من أموالهم وأولادهم لعقودٍ ثم وجدوه يقتلهم في  "جمعة أحرار الجيش" 14 تشرين الأول 2011، فلم يستجب لنداءات الحرية والكرامة إلا نفرٌ قليلون شرفاء، شاركوا المتظاهرين الأمل بالولادة الجديدة، وبدأت طلائع الجيش السوري الحرّ لحماية المدنيين، فتعالت الصيحات في "جمعة الجيش الحرّ يمثّلني" 25 تشرين الثاني 2011، وأكّدوا رؤيتهم لضرورة مساندة الجيش الحرّ فطالبوا بتمويله وتسليحه في "جمعة دعم الجيش السوري الحرّ" 13 كانون الثاني 2012 وفي "جمعة تسليح الجيش الحرّ" 2 آذار 2012؛ ليَقوى الجيش الحرّ على مجابهة جيش بشار المجرم الذي بدأ دعم حلفائه يتدفق عليه من إيران وروسيا ضد الشعب السوري.

ولعل هذه العناوين تكفي للتمثيل على ما ترقّبه السوريون عامةً منذ بداية الثورة من ولادة سوريا الحرّة، من خلال بوارق أملٍ جاءت أكثرها حملاً وهمياً مع الأسف، دون أن تنال من عزيمة الثائرين لعشر سنوات، ودون أن تكسر إرادتهم ورغبتهم الثائرة بالحرية والكرامة.

وإن كان الطرق على الحجر الصلب لعشر سنوات يفتّته فلا تمنعنا المكابرة من الاعتراف بالتعب، أو دخول كثيرين حالة اليأس التي يتعذّر فيها الحمل، لابتعاد المشهد السوري اليوم عن تلك الهتافات خلال "جُمَع" كثيرة نادينا فيها بالداخل والخارج؛ تارةً نرجو وتارةً نأمل، وفي أحيان كثيرة ينقطع الرجاء إلا من الله بالفرج.

فالقراءة الصحيحة لحالات "المواليد" المتقدمة تكون بالنظر في سياق خيبة الأمل لما كان يرجوه سوريون كثيرون من ولادة سوريا الحرّة، لا سيما بعد اختلاط الرايات وتشابُه الفاعلين علينا!

لكنّ انقطاع الأمل بحمل الأمل لا يبرر أن يأتي من سِفاح؛ فليس كل ما يخرج به السوريون المهجَّرون من الولادة من جديد صحيحاً سليماً؛ فالتدقيق في سجل هذه "المواليد" الفردية – وهي قليل من كثير – يستوقفنا ليضعنا في موقف مَن يولَد له على الحقيقة بعد زوال الفرحة الأولى بالمولود؛ فواحدٌ يتعاظم فرحه الأول فيدعو لـ "المولود" بطول العُمر، وثانية تدعو عليه بقصف عُمره لخيبتها فيه، وثالثة تبكي وهي تنظر إليه عاجزةً أمام إعاقته أو تشوّهه؛ فهي إما حالات ولادة صحيحة، وإما حالات ولادة خاطئة، وإما حالات ولادة مشوّهة؛ ولكنها تمّت، ولا يُعاد مولود نحو مصدره أياً يكن!

فللسوري المحروم حتى من جواز سفر أن يفرح بما ينجزه ويحصل عليه من جنسية أو تفوّق أو تملُّك؛ لكنّ ما لا ينبغي أن يغيب عنّا جميعاً ألا نترك أصلنا وهويتنا، وإن كنا نسمع من أبنائنا أنه لم يعد لنا في سوريا شيء فهو لخلل في تربيتنا وتنشئتنا إياهم؛ ويا فرحة مَن هجّرونا إن تحقق ذلك! فمن الوفاء لنحو مليون شهيد ومعتقل ولأكثر من 6 ملايين نازح ومهجَّر ألا نترك ثورتنا، وألا نتخلّى عن هويتنا وأصلنا.

نعم؛ سنعدّ اليوم بالعقود وقد دخلنا العقد الثاني من عُمر ثورتنا بعد أن كنّا نعدّ الأيام، والجمعة إلى الجمعة، ثم العام إلى العام؛ لكنّ عقداً تقضّى من الزمن يجب أن يزيدنا حرصاً على ما خرجنا ابتداءً من أجله "الحرية والكرامة".

فليس من "الحرية والكرامة" أن يهدأ الشارع مع التعب والشدة؛ فلم نسكت عن "بشار" المجرم حتى نسكت عن تجاوزات فصيل أو سلطة أمر واقع تسوق الناس والبلد حيث شاء لها الهوى والمصلحة الخاصة، فلا بد من بثّ الروح من جديد في الناس؛ لأن ما يُقرَّر عن الشعب السوري منذ جنيف1 عام 2012 إنما يُفرَض فرضاً، وإن كان يحضر بعضَ جولاته مَن يُزعَم أنهم ممثلو السوريين، وهم أقرب إلى حال "شاهد ما شفش حاجة". وليس من الوفاء لصيحات "الحرية والكرامة" لعشر سنوات أن يأخذنا السعي على أهلينا وعيالنا ووراء أحلامنا الشخصية، بعيداً عما خرجنا من أجله في 2011 على أمل ولادته "سوريا الحرّة".