وداعٌ أخيرٌ لحبيبة من زمن الحرب

2022.06.11 | 04:32 دمشق

swrykrthlqrn.jpg
+A
حجم الخط
-A

كلانا هرب من الدموع، واستعجل الإمعان في الوداع، ونحن نعلم أنه ربما سيكون اللقاء الأخير، ما كان لي وأنا في هذا العمر أن أتحمَّل مشاق الرحلة مرة أخرى، وما كان لكِ أن تبقي ذراعيْك مفتوحة لترحبي بي كحبيب انتظرته سنوات تسعة.

 ومن قال: إن المعابر غير النظامية ستبقى مشرعة على "كردستان العراق" في زمن السيولة؟ وإنّ "النظام السوري" لن يسيطر على المعابر مرة أخرى لـ "يُجَمْرِكَ" وثائق الداخلين والخارجين ويفرض ضرائبه على هدايا الأحبة؟

لا تعيش الأنظمة بغير الضرائب والتفييش والتفتيش والصراخ واستعجال الخطوات، المعابر "النظامية" مغلقة أمامنا نحن عشاق الحرية، فقد وُضِعَتْ أسماؤنا في سجلات شرطة الحدود، وكُتِبَ بجانبها "لمراجعة الجهات المختصة"، وكي نعبر مرة أخرى، ونراجع الجهات الرسمية، لابدَّ أن نتخلى عن أحلامنا أولاً، فالأوطان القديمة تحبُّ أن ترانا مكسورين، منهزمين، دون أحلام.

 في كل البلدان يجمركون البضائع، إلا في بلادي وما يجاورها، يجمركون الأحلام، لديهم مجسَّاتٌ خاصة للتلصّص عليها، والقبض عليها، وهي في لحظة تحققها.

حين وقفتُ بالقرب من حدودك مودّعاً، هربتُ بسرعة من عينيكِ يا حبيبة، كان يجب أن ينتهي اللقاء الذي دام سبعة أيام أو ساعات أو دقائق أو سنوات أو قرون، لم أعد أتذكر تماماً.

كنتِ قد أمرتِ العساكر أن يغضوا النظر عن عاشق، كان ينظر إلى جبالك الشاهقة، ونهر دجلة أمامه يرومُ الوصول إليك عبر معبر "غير نظامي"، قلتِ لهم: اسمحوا لهذا العاشق أن يمر، فالحبُّ مثل الحرب: ظروفه طارئة، وسائلة ومتحولة.

أنا كنت أردِّد كلام أمي: الغربة مضيعة الأصول، وأنت كنتِ تفتحين شباكك لتردّدي: الغربة قد تكون فرصة لتعيد تشكيل أصلكَ، وتتجاوز ماضيك، وتبدأ من جديد

تقول أمي، حين تذهب لزيارةٍ، وتستعجل إنهاءها: "الشُّوْفَة واحدة، إنْ كانت قصيرة أو طويلة"!

غير أنَّ كلام الحكماء هذا لم يشفع لها، حين ضمتني مودعة؛ أن تبكي: قد لا أراكَ مرة أخرى!

كدتُ أن أردِّد مازحاً: "الشوفة واحدة يا يُمَّه" غير أنَّ دموعها منعتني.

حين أمسكتُ بكمشة تراب لأحملها إلى من أحب، ارتجفتُ خوفاً وحباً، بحثتُ لاحقاً عن تلك الكمشة فلم أجدها، أذابت بين أصابعي؟ أم أنها حطت في مراسي القلب، لتسري في دمي؛ لعلّي أواجه ما تبقى من زمان، يعاندني وأغافِله.

كنتِ تشتكين لي عما فعلت بك الحرب، وأنا أشتكي لك عما فعل بي الغياب، أنا كنت أردِّد كلام أمي: الغربة مضيعة الأصول، وأنت كنتِ تفتحين شباكك لتردّدي: الغربة قد تكون فرصة لتعيد تشكيل أصلكَ، وتتجاوز ماضيك، وتبدأ من جديد.

كنا حصيلة لقاء الجغرافيا بالتاريخ، حانت لحظة التغيير: أنتِ هيَّجْتِ أشواق أبنائك إلى الحرية، ونحن هيَّجنا أشواقنا إلى السفر، وكلانا عاشق للسفر، فتحتِ حدودك لأبنائك كي يخرجوا من الصندوق المغلق، وصدَّقوا هُم الحكاية، أخذوا حقائب تكفي لأيام أو شهور. غير أنهم حين عادوا إليك، بعد سنين، وجدوا وجوهاً لم يعرفوها من قبل، لأقوام ليس لهم سجلات "داخل السور"!

تعطين أبناءك الحجج دائماً: هذا يسافر كي يتمّ دراسته، وهذا من أجل أن يؤمن مستقبل أولاده، وهذا كي يهْرُب من السلاح الكيماوي، وآخر يجب أن يسافر؛ ريثما تضع الحرب أوزراها.

هل سيكون الحال؛ إنْ وضعتْ الحرب أوزارَها، على ما هو عليه قبل أوزارِها؟ ما بعد الحرب ليس كما هو قبلها كما يقول خبراء الحروب. ومن قال: إنْ أراد حبيبُك المسافر أن يعود، بعد غياب، سيجد حبيبته كما تركها؟

إنها الحرب يا حبيبتي، لا تبقي ولا تذر، تسهّل علينا القفز والركض والهروب والخشوع والخطوات غير المحسوبة، فنغامر ونقامر، وقد نبتعد عن المرايا كي لا تتعرَّف إلى خطواتنا، نريد أن نمشي على دروب لا تعرف خطواتنا.

حين تلمستُ وجهك عن قرب، سألتكِ: يا حبيبة ماذا فعلت بك/بنا الحرب؟ وما لي كلما اقتربتُ منك أشرقَ وجه أرضك في عيني قلبي، ألم يقولوا: يخفت الحب بالقرب والغياب!

ضاع أبناؤك يا حبيبة في البلدان، حتى عجزوا أن يحدِّثوا أبناءهم عن تاريخك المرتبك المربِك، صاروا يختصرونه في "الطبخ"، من خلال اسمك الجديد "جمهورية الطبخ السورية"، أين ضاع اسمك القديم يا حبيبة؟

أتعبَني حبُّك يا حبيبة؛ مثلما أتعبتْك اللغة المجازية، وغدا حبي لك مثل "السيرة الذاتية" التي يحملها السوريون على ظهورهم زمن اللجوء، لا هي نسيتهم، ولا هم قادرون على أن يتخلوا عنها. لا البلاد الجديدة تعترف بسيرهم الذاتية، ولا هم بقادرين على البدء من جديد، ضاعت سيرُهم وضيَّعتهم معها، وبعد سنوات من "زراعة السيرة الذاتية" لم يحصدوا سوى الضياع والتجارب المهزومة.

عادة، يسعى الناس لبناء "سيرهم الذاتية" بحماس يا حبيبة، أما أنا فأريدُ أنْ أتخفَّف منها كي أعيش، نتعاند كل تلك السنوات الطويلة ليتخلص كلٌّ منا من الآخر، أو ينساه، أو يرحل عنه، أو يذوب فيه. لكن ثمة عناصر بيننا لا تقبل أن تذوب ببعضها، وتُبقِيْ مسافة كبيرة من الـ "لا أمان" بيننا، قال لي مدرب السواقة الهولندي، بعد ثلاث رخص سواقة، غير معترف بها: مشكلتي مع السوريين أنهم لا يتركون "مسافة أمان" بينهم وبين السيارات الأخرى!

قلتُ له: يلتصق السوريون بما ينشغفون به، يحبُّونه إلى آخر درجة، وقد يكرهون أو يغيبون إلى آخر درجة، ويحلمون بأن الثورة لا حلّ لها بغير النصر الكامل.

تقول حكيمةٌ سوريّة متوارية: تتحكم الأنثى بمسافة الأمان والاطمئنان أكثر من الرجل لأن الحياة خذلتْها كثيراً، فمن مرّوا بالقرب من حدودها علموها الكثير. أما الرجال فيفتخرون أن يُسَمَّوا بـ "المجانين"، حين يحبّون، ينسون الذكورية المتجذرة بدمائهم، فيُكنَّون بأسماء حبيباتهم.

يقول صديق: إنَّ مشكلته الرئيسية هي "مسافة الأمان"، ينسى نفسه، ويتجاوزها فلا يبقى حلٌّ غير القطيعة، وما إنْ يشرب كأسها الأولى أو يقف على أطلالها، حتى تذوب هي بُعداً بالصمت، فيما يؤثِّثُ هو أوقاتَه بالكتابة.

اليوم وجدتْني ملقياً على شكل "جرح في عضلة القلب"، تشكَّلَ الجرحُ سفينةً، أو سنبلةَ قمح، فيما أنا وأنت نتشاكس داخل هذا الجُرح، ولم نعد نستطيع أن نعيش بأمان، لا كان الجرح يلتئم ويشفى، ولا نحن قادرون على أن نتخلص منه، فقررنا أن نسافر إلى اتجاهين مختلفين: أنت إلى الشمال وأنا إلى الجنوب، كي تضيَّعنا المسافات فنتوه فيها، وكأن لا أحد منا يريد أن يلتقي بالآخر. المحطات الجديدة في تاريخك الشخصي ليست الأفضل دائماً، وإغلاق صفحتي في مخطوط حياتك لن يجعلك أكثر أماناً، فتردّدين: الله غالب!

 سوريَّتي التي أحببت: ماذا ستفعلين بالحروف والكلمات والجمل التي كتبناها، ورددناها معاً؟ فأنجزنا أول أبجدية، وأول قطعة موسيقية وأول مدينة مأهولة، وأول خيبة كذلك، كيف نبقي الدلالة وندفن النص، ومن قال: إن الجغرافيا يمكن أن تغيب أو تسافر، في بلاد الله الواسعة وتترك التاريخ وحيداً.

قالوا لي: خذْ قنينة ماء من نهر الفرات، تشرب منها إنْ عطشت في الطريق، فعلتُ ذلك، غير أن تلك القنينة بقيت ممتلئة، وكلما نقص ماؤها تعيد عيناي ملأها، ماءُ "زمزمنا" لا يتوقف عن التفجر، رغم كل أولئك الحجاج وتغيرات المناخ، كأن حبَّك يا حبية زمزمٌ أتطهر به، فأعيديني إليك؛ لأنني منذ خرجت منك قبل سنوات تسعة، وأنا ضائع أبحث عن أشتاتي، التي لم تعثر على أشتاتها، لكن وفقاً لـ عمر: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما// يظنَّان كل الظن ألا تلاقيا.

إنها الحرب يا حبيبة: لا وقت لضبّ العواطف، أو ترتيبها في الحقائب. لا وقت لقراءة لغة الأصابع أو قسمات الوجوه. لا وقت لإغلاق الشبابيك التي ستبقى مفتوحة للرياح؛ إنْ أرادت أن تستريح

أودّعُ أرضَكِ المطلة على نهر دجلة يا حبيبة، وأنا أعيش شعوريْن متخاصميْن: أحدهما يدفعني لأقرّر أن لا أزورك مرة أخرى، وقد وجدتك غير رائقة. وآخر يقول لي في اللحظة ذاتها: إنني لن أتوب عن حبي لك، مع أنّني أعلم أن شروط التوبة لم تتغير: الإقلاع عن الذنب، والمعاهدة على ألا تقربه مرة أخرى، وإيفاء الحقوق إلى أهلها. وها أنا أمشي لأنفِّذها حبَّاً بك: أعدُكِ أنني لن أبتعد عنك ثانية (تنفيذاً للشرط الأول)، والتزاماً بالشرط الثاني: أعتذر عن كل هذا الغياب والإمعان فيه. وأما الشرط الثالث: فسأمشي في طريق محبة مَن أنجبتِ وأحببتِ أعمق وأغور من قبل؛ فهل تقبيلين توبتي بعد غياب تسع سنوات؟

اعذريني! إنها الحرب يا حبيبة: لا وقت لضبّ العواطف، أو ترتيبها في الحقائب. لا وقت لقراءة لغة الأصابع أو قسمات الوجوه. لا وقت لإغلاق الشبابيك التي ستبقى مفتوحة للرياح؛ إنْ أرادت أن تستريح.

إنها الحرب يا حبيبة: الفرصُ لا تنتظر أفضل المرشحين، والقطارات لا محطات ثابتة لها، وبيوت الشَّعَر لا أضواء فيها، و "حمد" فَقَدَ الأمل من مرور "الريل" بعد أن خربت الحربُ سكة القطار؛ التي كانت تُوصِل حبيبتَه إليه، وها هما يبحثان عن جغرافيا جديدة؛ لتاريخ مؤقت.