وجبة الغداء على مائدة الرئيس العربي

2021.09.04 | 05:18 دمشق

inside_arab-politicians_4leaders_109745.jpg
+A
حجم الخط
-A

كل رئيس عربي يتعرض لمحاولة اغتيال أو أكثر وإن لم يتعرض لها يدّعيها، فقد جاء بانقلاب، والانقلاب شرعية زائفة، منصب الرئاسة أشرف منصب في الدولة، وعليه تقع المنافسة وحوله يجري الصراع.

وعندما يتولى زمام السلطة، يجد نفسه مكبلّا بالقوانين والدستور، ومحاطًا بالمنافسين، وهو يريد اللعب من غير حكم مباراة وخطوط تماس، ويكون جائعًا سياسيًا، ويفكر في وجبة الغداء، فيشتهي المعارضة على الفحم قبل أن تتغدى به، وبالمصطلحات العسكرية اسمها حرب استباقية أو حرب وقائية، حتى إن الاتهام بمحاولة الاغتيال صارت عادة عربية مؤكدة وواجبة، بل إن جورج بوش الجونيور احتاج إلى هذه السنّة في غزو العراق، فزعم للشعب الأميركي الساذج الذي يحب أفلام المطارات والانتقام أن صدام الذي يصنع أسلحة كيماوية حاول قتل أبيه، فجرّه خلفه إلى المعركة للانتقام من المحاولة الفاشلة، لكن رؤساء الغرب يتهمون خصومهم بها أما الرؤساء العرب فيتهمون إخوانهم وأبناء شعبهم ومنافسيهم على السلطة.

وقد زعم الإعلام المصري أن عبد الناصر تعرّض لمحاولة اغتيال، وهي الشهيرة بحادثة المنشية، التي ما يزال يُسكب فيها الحبر تحليلًا، إما إثباتًا أو إنكارًا. الشرع والقانون يقولان أن يحاكَم محاولو الاغتيال، ويُقتص منهم، وبما أن القتل لم يقع، فغالبًا يكون الحكم تعزيرًا، لكن الرئيس يمضي إلى الانتقام من جميع أقارب المتّهمين، قرابة سياسية، أو قرابة أرحام. وعدوا تمتد في العراق حتى الدرجة الرابعة بالقانون أما في سوريا فالمدينة أو المحافظة تصير معادية للدولة.

بالأمس القريب خرج سرحان سرحان المتهم بقتل كينيدي من السجون الأميركية، لكن لم يحدث أن خرج متهم بقتل رئيس عربي حيًا، لم يكن محمد علي باشا والي مصر يحتاج إلى تلك الحيلة للتخلص من كيد خصومه، فدعا المماليك الذين بايعوه إلى وليمة وأعمل فيهم السيف وقتلهم جميعًا، وكان عددهم أربعمئة، ولم ينجُ سوى واحد، قفز بحصانه من فوق السور، وهو الذي روى لنا قصة الوليمة، والتي تسمى بمذبحة القلعة، فمات الحصان، ونجا، وروى لنا ما جرى.

 لا بد من القضاء على الخصوم

استطاع عبد الناصر بعد تهمة محاول قتله التي تقول تحليلات إنها تمثيلية، أن يتغدى بالثور الأبيض، وهو الإخوان، وهنا بدأت الدولة البوليسية العربية على أرجح الأقوال، فلم نكن نعرفها بهذه الشدّة من قبل.

دافع صدام عن نفسه قبيل إعدامه بأنه فخور بقتل عبد الكريم قاسم، الذي اعتقل اثني عشر ألف مدني بريئ بتهمة محاولة اغتياله التي لم تقع، وشهيرة محاكمة صدام لرفاقه في سنة 1979 في قاعة الخلد، وهو يتلو الاتهامات، ويدخن سيكارا ويبكي، لا بد أنها كانت دموع التماسيح أو دموع الفرح، فقتل ثلث أعضاء قيادة الثورة لأنهم كانوا يريدون الوحدة مع سوريا، وكانت الوحدة تعني تهميشًا له. لم يكن يحب الهامش، ولم يتعرض لمحاولة اغتيال، فارتكب مجازر مريعة، وقسّم الشعب العراقي وجعله شيعًا، لكنه رأى القشة في عين الكريم قاسم، ولم ير الخشبة في عينه.

تعرّض حافظ الأسد إلى محاولة اغتيال نجا منها أيضًا، وبدأت بعدها العشرية السوداء، وهي عشريتان بل ثلاث عشريات، بل أربع، بل خمس، ونحن ندخل السادسة، لم يكن في عهد حكم الأسد مرحلة رمادية قط، وقد استطاع علماء السياسية المحيطون بالرئيس المنقلب تحويل العشرية السوداء إلى فصل سياسي وحقبة لازبة، يسمونها سوداء في التحليلات أحيانًا، لكنهم يثنون على مراحل حكمه البيضاء في المقابلات التلفزيونية واللقاءات الصحفية.

انتقم الأسد من خصومه المعارضين ونكّل بهم، واستتب له الأمر، وعندما تُقتل المعارضة، يصير الشعب لقمة سائغة، إلى أن وصلنا إلى عهد ابنه الذي انتقم من الشعب انتقامًا لم يُعرف في التاريخ البشري، لأن الشعب حاول اغتياله سياسيًا وإنهاء حكمه. الخصم كان الشعب مباشرة.

وزعم السيسي أنه تعرّض لمحاولتي اغتيال، لكنه لم يكن بحاجة إليها، فمرّتْ مثل نكتة عابرة في الإعلام المصري، فبقت خبرًا على شريط الأخبار، لأن الرئيس قضى على خصومه في مذبحة رابعة، وانتصر على خصومه ونكّل بهم، ولم يعد بحاجة إلى التهمة. وذكرت الصحافة أن الرئيس المصري حسني مبارك تعرض إلى محاولة اغتيال في أثيوبيا، فغضب أشد الغضب، لكن الوقائع تقول إنه كان أذكى حكام مصر، وأطولهم حكمًا، ولعل المصريين عاشوا أفضل أيامهم في ظله، مع أنها كانت سوداء، والأسود رمادي عند الشعب المصري لكثرة الظلم الذي قاساه عبر الأحقاب، الرئيس السادات تعرض للمحاولة وقتل، وكان قد اتهم خصومه بمحاولة زعزعة حكمه، ولم يسلم من تهمه أحد، الأقباط والإخوان واليسار إلى أن لاقى حتفه.

أما آخر وجبات الغداء في موعد وجبة الفطور، فهي أنّ الرئيس التونسي قيس سعيّد، وهو رئيس منتخب غير منقلب سوى على الدستور، أعلن شاكيًا أنّ جهات تريد اغتياله، ولم نكن نعلم أنه يستحق الاغتيال، فهو رئيس فنّ الخطابة المعاصر ورسائل الحمام الزاجل، لكن السلطة مغرية بالدماء، وقد رأى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، حتى أشرف غني زعم أنه مطلوب للقتل حتى يبرر هربه مع تلك الأموال، وتعيش القيادات التونسية في ذعر، ولا بد أن قلب رئيس حزب النهضة يدق بسرعة مثل طبل الحرب.

ماذا يكسب الرئيس من اختلاق قصة محاولة الاغتيال:

صورة الرئيس الضحية المظلوم، وصفة الشهيد الحي، البطل الناجي من الاغتيال بعناية الله، والداهية الذي لا يغدر به.

 النكوص عن العقد بينه وبين الشعب، فالدستور هو أول الضحايا.

 الاقتداء بالأنبياء الذين تعرضوا للقتل بسبب الرسالة، وهم يقتدون بهم في هذه الخاصية وحدها، دون خصائصهم الأخرى.

الانتقام من الخصوم وترويض الشعب وبثّ الذعر في المجتمع كله، فالخوف وليس العدل هو أداة الحكم في الدولة العربية المعاصرة.

 المؤامرة في السياسة كنز لا يفنى.