وثيقة الهُوية السورية

2021.02.26 | 00:19 دمشق

er4.jpg
+A
حجم الخط
-A

أصدر المجلس الإسلامي السوري في الثامن من شهر شباط الجاري وثيقة أسماها (وثيقة الهوية السورية)، وتتضمن مقدمة قصيرة، وبنوداً خمسةً، يرى أصحابها أنها تجسد المعالم الأساسية التي تتشكل منها، أو تتقوّم عليها الهوية السورية، ويمكن بيان فحوى البنود التي حملتها الوثيقة بالاختصار التالي: (الإسلام دين غالبية السكان في سوريا وهو ثقافة وحضارة لكل السوريين – سوريا جزء من العالم العربي والإسلامي - اللغة العربية هي اللغة الرسمية والسائدة – معرّفات الثقافة السورية عمرانياً واجتماعياً هي جزء من الهوية السورية – حقوق باقي مكونات الشعب السوري محفوظة ومصونة).

وبعيداً عن ردود الأفعال الأولية التي أثارتها الوثيقة، وكذلك قبل التعاطي مع ما تضمنته البنود الأساسية الخمسة، يمكن الوقوف أولاً عند ما جاء في المقدمة:

 (فمع اكتمال عشرية الثورة السورية على النظام الطائفي المستبد ومع استمرار محاولاته في طمس هوية الشعب السوري الأصيلة، واغتيال حريته واستقلاله وكرامته......ومع محاولات البعض التشويش والتدليس والتلبيس على معالم الهوية السورية، فإن المجلس الإسلامي السوري يرى أن من واجبه أن يؤكد ضرورة الحفاظ على الهوية السورية موضحاً الأمور الخمسة الآتية......).

ما هو واضح في المقبوس السابق أن الوثيقة جاءت استجابة لحاجتين اثنتين، تتمثل الأولى بالردّ أو التصدّي لمحاولات النظام الرامية إلى طمس معالم الهوية السورية، وتتمثل الثانية بالرد أيضاً أو التصدي لـ (محاولات التشويش والتدليس والتلبيس على معالم الهوية السورية). وما يمكن الوقوف عنده هو إن كانت البنود الخمسة التي حملتها الوثيقة تجسّد سمات الهوية السورية، فأيٌّ من هذه البنود حاول النظام طمسها وجاءت الوثيقة لتعيد طرحها أو إبرازها من جديد؟ وهل خلت الدساتير السورية المتعاقبة منذ مرحلة الاستقلال إلى دستور عام 2012 من الإشارات الدائمة إلى الإسلام كدين للأكثرية أو إلى عروبة سوريا ووووو؟ ألم يصدع إعلام الأنظمة المتعاقبة على الحكم منذ 1963 وحتى الآن رؤوسنا بخطاب العروبة والاعتزاز بالإسلام والحضارة الإسلامية وثقافة التنوع والحفاظ على حقوق الأقليات وعراقة الثقافة والحضارة في سوريا؟ إذاً ما الجديد الذي كان مطموساً وأعادته الوثيقة إلى الظهور؟ وذلك بغض النظر عن مصداقية النظام أو عدمها فيما تضمنته الدساتير أو القوانين المتفرعة عنها.

إن كانت البنود الخمسة التي حملتها الوثيقة تجسّد سمات الهوية السورية، فأيٌّ من هذه البنود حاول النظام طمسها وجاءت الوثيقة لتعيد طرحها أو إبرازها من جديد؟

ثم إذا كانت البنود الخمسة التي تضمنتها الوثيقة تجسّد حقاً معالم الهوية السورية – وفقاً للمجلس الإسلامي السوري – فلا يُعقل أن أحداً لديه الحدّ الأدنى من الموضوعية والإنصاف، بإمكانه (التشويش والتدليس والتلبيس على معالم الهوية السورية)، فالقول بأن الإسلام هو دين الأكثرية هو حقيقة وليس ادعاء أو استنتاجاً، وكون سوريا هي جزء من الوطن العربي وكذلك جزء من العالم الإسلامي هي حقيقة أيضاً وليست تحليلاً أو وجهة نظر تحتمل الخطأ والصواب، وحتى القوى والأحزاب والشخصيات التي تناهض فكرة العروبة والإسلام، لم يسبق لها أن قالت سوريا ليس بلداً عربياً، وأن الإسلام هو دين الأقلية في سوريا، إذاً من أين جاء (التشويش والتدليس والتلبيس) ومن هم أصحابه؟.

بالعودة إلى متن (وثيقة الهوية السورية) نجد أن المعطيات التي تتكوّن منها هذه الهوية، أو الدعائم الأساسية لها، هي الدين والعرق واللغة، إضافة إلى الإرث الثقافي المشترك، ولا شك أن جميع هذه المقوّمات هي معطيات قديمة وثابتة، فضلاً عن كونها هي المعطيات ذاتها التي نهضت عليها الإيديولوجيا القومية التي التحفت بها الأنظمة الحاكمة التي تعاقبت على السلطة في سوريا منذ 1963 وحتى الوقت الحاضر. لعله من الواضح أننا أمام هويّة سوريّة تتماهى في جزء كبير منها مع إيديولوجيا السلطات الحاكمة على امتداد أكثر من نصف قرن، ولعله من المؤكّد أن هذه الهويّة كانت مفروضة على السوريين قسراً، بفعل منهج القمع الذي لم يتح للسوريين التفكير بحرية، واختيار ما يؤمنون به بملء إرادتهم، ولسنا بحاجة إلى التأكيد على أن قيم العروبة والإسلام وكذلك اللغة، لم تحافظ على كينونتها واستمرارها بفضل حصانة السلطات السياسية المتتالية على الحكم لهذه القيم، وليس بفضل الدساتير المصاحبة لتلك السلطات، بل بفضل تجذّرها في الوجدان الشعبي، وامتدادها العميق في ثقافة السوريين وحضارتهم، بل يمكن التأكيد أيضاً على أن منهج القمع والاستبداد طيلة عقود خلت، هو الذي حال دون ظهور هويّة وطنية سورية من شأنها أن تكون عقداً عاصماً من الانفجار المجتمعي، ومظلة جامعة يمكن أن ينمو في ظلها مشروع وطني سوري بدلاً من حالات الانقسام المريعة التي تشهدها سوريا في المرحلة الراهنة.

ولئن أتاحت ثورة آذار 2011 للسوريين أن يفكروا ويتحاوروا بشؤون واقعهم ومستقبلهم بعيداً عن كوابح الخوف ووسائل التنكيل، ما أفرز حراكاً ثقافياً وفكرياً كان غائباً عن سوريا طيلة نصف قرن، إلّا أن هذا الحراك ذاته أفصح – في جانب منه – عن ارتكاسات كبيرة في الوعي والتفكير، لا توازي المضمون القيمي للثورة، ومن أبرز هذه الارتكاسات عودة الكثيرين إلى حواضنهم البدائية والسعي لبناء هويّات ما دون وطنية (عشائرية – طائفية – وأحياناً مناطقية)، موازاةً مع ظهور هويّات ما فوق وطنية (داعش ومشتقاتها – حزب العمال الكوردستاني ومشتقاته)، الأمر الذي يؤكّد عدم قدرة وفاعلية الهوية – الهويات – القسرية على أن تكون كابحاً لحالات الانشطار المجتمعي والسياسي والفكري، وما يؤكّد أيضاً حاجة السوريين إلى هويّة وطنية (متجدّدة) لا تتنكّر لمقوّماتها التاريخية ولكنها لا تنغلق عليها، الهويّة (المتجدّدة) هي التي تستمد معطياتها الجوهرية من المصالح المشتركة بين المواطنين، بكل انتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية، بحيث تكون مظلة جامعة تفصح بوضوح أن العلاقة الناظمة بين الأفراد داخل البلد الواحد هي علاقة تشاركية، وليست علاقة أكثرية وأقلية.

الهوية – الهويات – الثابتة تشكلت مرة واحدة عبر التاريخ ثم انغلقت، وهي بانغلاقها على ذاتها تتنكّر لحركة التاريخ التي تحمل كلّ يوم معطًى جديداً، ولعل استمرار تلك الهويات الماضوية بالانغلاق سوف يؤدّي إلى تصادمها، وبالتالي إلى تصادم الجماعات داخل المجتمع، ولتلافي ذلك لا بدّ من التفكير ببناء هويّة جامعة، وهذا مرهون بقدرة السوريين على إنتاج عقد اجتماعي يجسّد تطلعات الجميع، ويكون نافذة العبور إلى سوريا المستقبل.