همومنا السورية الصغيرة.. ماذا لو أنها لم تحدث؟

2021.07.13 | 07:06 دمشق

1_1342.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثيرا ما يوجه لي السؤال التالي كلما سافرت في زيارة أو دعوة إلى أوروبا وعدت منها إلى القاهرة حيث أعيش الآن: لماذا تعودين؟ أليست الحياة في أوروبا أكثر أمانا لمن هي مثلك؟ ثم إن غالبية أصدقائك وأفراد عائلتك في أوروبا، حتى أن السوريين الذين عرفتهم في القاهرة وصاروا جزءا منك غادروها نحو القارة المبتغاة، ما الذي يبقيك في بلاد العرب؟ وللحقيقة، بت أنا نفسي أتساءل عما يبقيني في القاهرة، حيث لا أمان لامرأة تتقدم في السن مثلي، فبلاد العرب لا تحب كبار السن ولا تحب الضعفاء ولا تحب محدودي الدخل، لا من أبنائها ولا من ضيوفها، هذه البلاد، عموما، تحب الأقوياء أصحاب النفوذ، في المال والصبا والسلطة، لا أقصد مصر تحديدا، وإنما كل الدول المشابة، التي لا ثقافة مجتمعية فيها لاحترام كبار السن، ولا يوجد أي ضمان لا للحاضر ولا للمستقبل لأي كائن، الضمان الوحيد هو أن تكون تملك ما يحفظ كرامتك، والتي للأسف في بلادنا لا يحفظها سوى المال، فالفقر ضعف وذل، بعيدا عن كل الشعارات الأخرى التي اعتادت أحزاب وأيديولوجيات على تكريسها في عقلنا الباطن. ومع مهنة كمهنتي، الكتابة الحرة، يصبح خطر فقدان الأمان واردا جدا، خصوصا وأن تداعيات كورونا بدأت تظهر بشكل واضح على الوضع الاقتصادي العام، ونحن، أقصد من يعيش من دخل الكتابة فقط، الأكثر عرضة لهذه التداعيات، فضلا عن تأثرنا أيضا بالخلافات السياسية بين الدول وبالمصالحات حين تتم، وهو ما يعرفه غالبية من يشتغلون في المهنة نفسها.

في مصر لم أغرق في روتين لا الأوراق ولا اللغة ولا الندماج ولا أي شيء، كله سهل كما لو أنني في بلدي نفسه

ما الذي يبقيني في مصر إذا؟ وأنا أعرف أنني على شفا هاوية، أو حقيقة بدأت في النزول نحوها، وهو ما يجعلني حاليا أعيش قلقا لم أعشه منذ زمن، سابقا كان الأمر لي أن مصر قريبة على سوريا، وأنني عائدة قريبا دون أن أشعر بأنني فقدت ما أنجزته، سأحمل معي فقط شوقا لأصدقائي هنا، لكن العودة إلى مصر سهلة، ويمكنني أن أقضي حياتي بين القاهرة ودمشق، كان هذا ما خططت له، وأنا أدرك ماذا يعني أن تعيش في أوروبا وتغرق في روتين الأوراق واللغة والاندماج وتعتاد على نمط حياة فيه احترام لآدميتك وكيانك وضمان لمستقبلك وشيخوختك، هذا يعني أنك لن تضحي بكل ذلك من أجل العودة إلى بلد قضت عليه الحرب كليا، أو لنقل لن تترك دولا ومجتمعات مكتملة وآمنة لتعود إلى شبه بلد بمجتمع مشتت ومستقبل مخيف، لو أنني ذهبت وعشت في أوروبا لما فكرت ألبتة في العودة إلى سوريا، في مصر لم أغرق في روتين لا الأوراق ولا اللغة ولا الندماج ولا أي شيء، كله سهل كما لو أنني في بلدي نفسه، إذ إن (السيستم) العام متشابه إلى حد التطابق.

لكن هاهي تسع سنوات تكاد تنتهي منذ خرجت من سوريا على أمل العودة باكرا ولم أعد، خلالها كنت دائما أتوق لأن يقوم المجتمع الدولي باتخاذ قرار إيجابي وملزم بما يخص سوريا: عملية تغيير سياسية وعودة مضمونة لجميع اللاجئين والمهجرين، والكشف عن مصير المغيبين، وتفريغ لكامل المعتقلات السورية، لكن شيئا من هذا لم يحدث، ومع كل خيبة أمل في قرارات المجتمع الدولي الملزمة كنت أشعر أن سوريا صارت في آخر الأرض، وأن أملي في العودة إليها بتر تماما، خصوصا وأن  أكثر من مذكرة اعتقال صادرة بحقي هذا من جهة، من جهة أخرى كنت وما أزال، قد اتخذت قرارا بعدم العودة مادامت (سوريا) مرتبطة بـ ( الأسد)، لن أعود إلى سوريا الأسد يوما، إذ ما من ذل يعادل ذلك، لو أنني لم أخرج من سوريا لربما كان الأمر اختلف، لربما كنت اعتقلت وخرجت وعشت كما يعيش الأصدقاء هناك، أعاني نفس معاناتهم، ولفتتنا الذل كما نفتت رغيف خبز يابس ونصنع منه مادة لسهرة ما وننسى، لكن العودة بعد كل هذا الزمن دون أن يكون شيء قد تغير، ففضلا عن خطورتها فيها تنازل كبير وتراجع عما آمنت به، ولا أنوي فعل ذلك أبدا، لا أستطيع فعل ذلك لا نفسيا ولا أخلاقيا.

ما الذي يبقيني إذا في مصر ولماذا لا أسافر لأعيش في بلد أوروبي ما طالما أمل العودة إلى سوريا انتهى؟ أنا الآن في السابعة والخمسين من عمري، حين وصلت مصر وأحببتها رتبت حياتي على أساس العيش بين مصر وسوريا، وهكذا قضيت أيامي أحلم بهذا، بيد أن ذلك ليس سوى وهم، لا سوريا متاحة ولا إن خرجت من مصر سوف تكون العودة متاحة، ولم أعد قادرة على البدء بحياة جديدة في مكان جديد، لست قادرة على روتين الأوراق واللجوء واللغة (أنا فاشلة في تعلم اللغات)، لم تعد لي طاقة لفعل شيء من هذا، استنفذ الانتظار والقهر والمرض طاقتي بأكملها، استنزف الخوف أيضا طاقتي، ولم تعد لدي ثقة بأي شيء وبأي مكان في العالم، لم أعد أثق حتى بالأمان الأوروبي، وأنا أرى بعض الدول يطردون السوريين بحجة أن بلادهم أصبحت آمنة، لست واثقة بأنني في أوروبا سأجد الأمان وأنا أعرف كمية الاكتئاب والأمراض التي أصيب بها سوريون أصدقاء وغير أصدقاء بسبب الإحساس بالعجز أمام الروتين وأمام الواجبات المطلوبة، لست واثقة أنني سوف أجد ما يحكى عن الاحترام لكبار السن وقد فضح (كوفيد 19) ما كان مسكوتا عنه حول هذا الأمر. كما أن العيش هناك يعني أن خيط العنكبوت الواهي الذي يربطني بسوريا قد انقطع. هنا، في القاهرة، رغم كل شيء، ثمة فراغ لأمد هذا الخيط وأراقبه.

هل يلام أحد من السوريين الذين ذهبوا إلى أوروبا وأميركا على قراره وهو يعلم أنه سوف لن يعود إلى سوريا؟ شخصيا أجد مبررا لكل من ذهب ولجأ، حتى لو لم يكن ملاحقا أو مهجرا، فلم تكن سوريا يوما وطنا، كانت مزرعة وعلينا جميعا تقديم فروض الطاعة للمالك كي نحصل على أقل حقوقنا؟ ثمة من يقول لكن سوريا أصبحت أسوأ بعد الثورة، نعم أصبحت أسوأ لكن هل الثورة السبب؟ أم المالك الأرعن الذي أراد معاقبة من خرج عن طاعته ولو دمر البلد بمن فيها يساعده في ذلك العالم بأجمعه؟

ليس أمرا عاديا أن تموت وحدك في بلد غريب وأن يمنع حتى جثمانك من الدفن في التراب الذي أحببت

أفكر أحيانا ماذا لو أن ما حدث لم يحدث؟ ماذا لو أن الربيع العربي لم يصل إلى سوريا؟ أعرف أن روحي تتفتت لدى هذا السؤال، إذ ليس أمرا عاديا أن ترى بلدك قد تدمر هكذا وغيبت أجيال كاملة من خيرة شبابه بالتهجير أو بالموت أو بالاعتقال، ليس أمرا عاديا أن تكون ممنوعا من العودة إلى وطنك، وأن تحرم من زيارة قبر أبيك، وأن تخشى من سماع خبر ينهي ما تبقى لك من قوة وأنت عاجز على التصرف أو فعل شيء، ليس أمرا عاديا أن تموت وحدك في بلد غريب وأن يمنع حتى جثمانك من الدفن في التراب الذي أحببت، ليس أمرا عاديا أن تعرف أن أصدقاءك يعيشون في كفاف الكفاف ويصمتون خشية أن يحدث لهم ما حدث لآخرين وأيضا أنت عاجز عن فعل شيء، ليس أمرا عاديا أن ينكل بك في مطارات العالم وفي كل مكان لمجرد أنك تحمل جواز سفر سوري عليك أن تجدده كل عامين وتستدين 300 دولار لتدفعها للنظام مقابل سنتين من أوراق لا يحترم صاحبها أحد. ليس عاديا كل ما حدث لنا بعد 2011، تلفت أرواحنا وقلوبنا، ومع ذلك، لو لم تحدث يومها كانت ستحدث بعد حين، ما كان للثبات المخيف الذي كنا عليه أن يستمر، الثبات السطحي الذي يخفي تحته بركانا من العفن كان سينفجر يوما ويأخذ في طريقه ما يأخذ، فليس قدرا بل ضرورة التاريخ، ونحن جميعا ندفع اليوم أثمان ذلك الثبات، لعل قادما ما سيكون أفضل لأجيال قادمة. أمام كل ذلك فيبدو الحديث عن بقائي في مصر أو غيرها هو شأن بالغ التفاهة قياسا بالرعب الذي يعيشه سوريون في المخيمات وفي داخل سوريا، لكنه رعبي الشخصي، هواجسي، قلقي، وهو على تفاهته جزء من هم كبير يتشاركه سوريون كثر.