هل ينهي "بوتين" نموذج الحياد السويدي؟

2022.05.10 | 07:05 دمشق

3333.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما وصلت إلى السويد لاجئاً في نهاية عام 2014م، كانت السويد تحتفل بمرور قرنين كاملين على آخر حرب خاضتها.

آخر حرب خاضتها السويد أدّت إلى توقيع اتفاقية "موس" بين السويد والنرويج، وإعلان اتحاد جديد بينهما، وذلك في الرابع عشر من آب أغسطس عام 1814م، واستمر ذلك الاتحاد حتى أعلنت النرويج نهايته في العام 1905م، منذ تلك الاتفاقية لم تخض السويد أي حرب، واستطاعت تجنب الاشتراك في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

رغم أن السويد شاركت في بعض العمليات العسكرية خارج حدودها، ورغم أنها تُصنف من بين أكبر مصدّري السلاح في العالم، فإن هذا لم يكن ليلقي بظلاله على المجتمع السويدي، وعلى تحولاته الثقافية والاجتماعية والحقوقية، والتي تطورت في بلد يُصنف على أنه أكثر بلدان العالم سلاماً، واستطاع المجتمع السويدي أن ينتج تجربة جماعية للعيش، لعلّها أرقى ما استطاعت البشرية أن تنتجه على هذا الصعيد.

اليوم وأنا أتابع ما يحدث في المجتمع السويدي، وفي نقاشات الحكومة والبرلمان، وما يجري على الأرض، أكاد لا أعرف هذا البلد الذي يتبدل بين ليلة وضحاها، فما يجري يشبه إلى حد كبير انقلابا عاصفا في مجمل نواحي الحياة:

  • السويد ستقوم بتوقيع اتفاقية تعاون دفاعي مع النرويج والدنمارك هذا الأسبوع، من أجل مواجهة تدهور الوضع الأمني في منطقة البلطيق.
  • تقوم السويد بإعادة بناء جيشها بعد عقود من الإهمال، نتيجة للتوترات المرتفعة مع روسيا في منطقة البلطيق.
  • الحكومة السويدية تقرّر استعادة خطط "الدفاع الشامل" في مختلف البلديات داخل البلاد، حيث سيكون من الملزم على البلديات التخطيط لحالات رفع الجاهزية.

السويد الدولة المحايدة الأقدم في العالم، تفكر اليوم في الانضمام إلى حلف "الناتو"، لتنهيَ بهذا الانضمام توصيفها الأهم كدولة مسالمة محايدة

  • أظهر استطلاع نشره تلفزيون السويد، أن ما يقارب 65 بلدية سويدية من أصل 290 جهّزت العاملين فيها لسيناريو الدفاع الشامل، وأكّدت المحللة في المعهد السويدي لأبحاث الدفاع، اسيكا ابيلغرين: "إننا بصدد استعادة خطط الدفاع الشامل مجدداً"، و"الدفاع الشامل" يعني أن على الذكور والإناث الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و70 عاماً، الالتزام الكامل بالدفاع عن البلاد على حد سواء من خلال الخدمة العامة.
  • شاركت السويد في تدريبات عسكرية في بحر البلطيق، تحت عنوان "قوة الرد السريع"، بقيادة المملكة المتحدة، وهي مناورات مخطط لها بشكلٍ مسبق، قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

 الأهم من كل هذا، هو أن السويد الدولة المحايدة الأقدم في العالم، تفكر اليوم في الانضمام إلى حلف "الناتو"، لتنهيَ بهذا الانضمام توصيفها الأهم كدولة مسالمة محايدة.

يضجُّ تاريخ العلاقة بين روسيا والسويد بالحروب، لكنها كانت جزءا من حروب كثيرة شهدتها أوروبا، كما هي كلّ مناطق العالم، وغيّرت هذه الحروب جغرافية الدول مراراً، وغيّرت في التركيبة الديمغرافية، وتسببت بمقتل عشرات الملايين، وهدمت مدنا كثيرة، وأحدثت مآسيَ لا نهاية لها، وأصبح هاجس طيّ صفحة الحروب والذهاب إلى عالم أكثر سلاماً هو حلمُ البشرية، وكانت السويد رائدة هذا الحلم، ونموذجه الذي يستشهد به الحالمون في العيش بعيداً عن قلق الحرب وويلاتها.

العامل الأهم في هذا الانقلاب العاصف في السويد، هو السياسة البوتينية التي أشعلت مخاوف السويديين، ووضعتهم في مواجهة سؤال لم يكن حاضراً بهذه القوة سابقاً، وهو سؤال الحرب، وماذا لو تعرضت السويد لحرب، تزداد احتمالاتها كل يوم مع جارتها اللدود روسيا؟

لم يجد "بوتين" وملهمه الفيلسوف النازي "دوغين" وسيلة لاستعادة روسيا لمكانتها التاريخية، إلا عبر الحروب، وتدمير الآخر، وهاهم يضعون العالم كله أمام احتمالات الحرب، وأي حرب؟! حرب مدمرة قد تطول ويلاتها مناطق واسعة، لا سيما أن حروب اليوم مدجّجة بقوى تدمير هائلة، ولديها القدرة للوصول إلى أي مكان في هذا العالَم، أي مهزلة وفجيعة هذه؟!

سيكون فاجعاً أن تغادر أقدم دولة محايدة في العالم حيادها، لتنضم إلى سيرك الجنون الذي يضع البشرية أمام احتمالات الموت، والجوع، ودمار البيئة، وربما ما هو أقسى من هذا.

أحاول أن أبحث عن أصوات المثقفين السويديين في هذا المفصل البالغ الأهمية في تاريخ السويد، فأجدها خافتة جداً، قياساً بهذا الدويّ العالي لطبول الحرب المجنونة التي يقرعها بوتين، والتي يؤججها يومياً بتهديداته واختراقاته المتكررة للأجواء السويدية، ولمياهها الإقليمية، يبدو أنهم يقفون عاجزين أمام هذه الغطرسة المجنونة التي تقود روسيا وقوتها العسكرية الهائلة، رغم أنهم يدركون معنى أن تزج السويد في سباق العسكرة والتسلّح، ليس على صعيد الاقتصاد فحسب، ومستوى المعيشة، بل أساساً في الهوية والثقافة والنموذج.

يذكرني السؤال الذي يطرحه المثقفون السويديون على أنفسهم اليوم، بالسؤال الذي طرحه السوريون على أنفسهم، عندما راحوا يواجهون جنون القوة العارية لقوات النظام، وهي تفتك بكل وحشية بأجساد المتظاهرين السوريين العزل، وهل يمكن رد العنف بغير العنف، وإلى أي حد يمكن للصرخة أن تواجه الجنون المتعطش للقتل والدم؟

ما بين بوتين وفاشيته، وبين بشار الأسد الأخرق المهووس بالسلطة، أقف أنا السوري الباحث عن بقية معنى لما تبقى لي من الحياة، ولا أجد إلا العبث

يقف المثقفون السويديون بين خيارين أحلاهما مرّ، فالبقاء على الحياد يضعف السويد ويجعلها هشّة جدا أمام احتمالات استهدافها من بوتين، مع ما تعنيه الحرب من نهاية النموذج الذي بنته السويد طوال قرنين، والذهاب إلى نموذج التحالفات والعسكرة، يعني أيضاً نهاية النموذج السويدي، فعلى أي جانبيك تميل؟

ما بين بوتين وفاشيته، وبين بشار الأسد الأخرق المهووس بالسلطة، أقف أنا السوري الباحث عن بقية معنى لما تبقى لي من الحياة، ولا أجد إلا العبث.

ما بين بلاد كانت ولا تزال حنيني وذاكرتي، لكنها دُمّرت، واستباحتها جحافل حاقدة لا تجد معناها إلا على أشلاء الآخرين، وبلاد حاولت فيها أن أجد لروحي ما يسندها، وها هي ترتدي ثياب الحرب، وتمضي إلى رعب آخر.

ما بين سؤال الماضي المُثقل بخيباته وقهره وضياعه، وما بين سؤال القادم المجهول المُثقل أيضاً بقهره وضياعه، أقف أنا السوري يتيم هذا العصر، الطليل لأصرخ إن كان هناك بقية من قدرة لدي على الصراخ:

أما لهذا الجنون من نهاية؟!