هل من سُبلٍ أخرى للمواجهة؟

2020.12.31 | 23:07 دمشق

image1170x530cropped_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد صدور القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية، بدءاً من قرار جنيف 1 لعام 2012 ، وانتهاءً بالقرار 2254 لعام 2015 ، وبعدما شهد العالم أجمع امتناع نظام الأسد عن التعاطي بجدّية مع تلك القرارات، بل دأب على ازدرائها وإهانتها من خلال المماطلة المستمرّة واستثمار الوقت موازاة مع إصراره على الحلول الأمنية التي لا يمتهن أو يتقن سواها، أقول: كان من المفترض بعد هذا كله أن تصبح المواجهة ليس بين السوريين ونظام الأسد فحسب، بل بين هذا النظام والمجتمع الدولي أيضاً، مُمَثلاً بمؤسساته الأممية ( الأمم المتحدة وأداتها التنفيذية مجلس الأمن)، إلّا أن هذه المواجهة المفترضة – وكما يعلم الجميع – لا تنطوي على أيّة جدوى ما لم تقترن القرارات الصادرة بالبند السابع الذي يجيز استخدام القوة لتطبيق القرارات الدولية، إلّا أن اقتران أي قرار بالبند السابع – وكما يعلم الجميع أيضاً – لا يعود إلى معايير حقوقية أو قيمية، بقدر ما يعود إلى تحكّم الدول النافذة التي تصرّ دائماً على أن يكون التنفيذ الفعلي لأي قرار أممي خادماً لمصالحها بالدرجة الأولى، ولعله من النافل أن نشير إلى سلبية الموقف الدولي حيال مجمل القرارات ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، بينما كان في غاية الإيجابية حيال القرارات ذات الصلة بعملية اجتياح الكويت في آب 1990 ، وهذا لا يعني بالطبع أن ثمة تفاضلاً بين مشروعية كلتا القضيتين، بل التفاضل ذو صلة وثيقة بالمصالح الدولية تجاه أي قضية في العالم.

ولعلّ النتيجة التي أفضى إليها هذا الخلل الفادح في تعاطي المرجعيات الدولية مع قضايا الشعوب، تبدو طاردةً لأشكال كثيرة من حسن الظن، بل لآمال مُرتقبة بالعدالة والمساواة بين الشعوب والجماعات، بل إن واقع الحال يؤكّد أن المرجعيات الدولية لم تُنتِج  – في أغلب الأحيان – سوى عدالة عرجاء، ومفاهيم تنطوي على تناقض صارخ بين المُفترض والواقع.

لقد أخطأت قوى المعارضة السورية حين تجاوزت الملفّات الإنسانية مُلزِمة التنفيذ الواردة في القرار 2254، وذلك نتيجة ضغوط إقليمية ودولية

ما من شك في أن أية عملية تفاوضية، إنما تستمدّ مقوّماتها الفعلية مما يجري على الأرض، سواء تعلق الأمر بموازين القوى العسكرية، أو بتقاطع مصالح الثورة مع المصالح الدولية والإقليمية المتصارعة على الجغرافية السورية،ولئن أنصفت المرجعية الأممية تضحيات السوريين بالحد الأدنى، بإصدارها أكثر من قرار يؤكّد على حقهم في التحوّل الديمقراطي من دولة الاستبداد إلى دولة الديمقراطية والمساواة، إلّا أنها لم تستطع ترجمة هذا الإنصاف إلى واقع فعلي، للأسباب المذكورة آنفاً، بل لعلّها كانت عاجزة عن لجم آلة القتل الأسدية التي ما تزال تحصد أرواح السوريين على امتداد ما يقارب عشرة أعوام، الأمر الذي جعل من القرارات الدولية مبعث خذلان، وأيّ خذلان، لجميع الضحايا السوريين، فهل سيكون عطب العدالة الدولية باعثاً كافياً وموضوعياً للانكفاء والتسليم بغلبة القوّة واندحار الحقوق أمام سطوة المصالح؟ لا أحد ممّن انحازوا إلى ثورة السوريين يعتقد ذلك، ولكن هذا لا ينفي – في الوقت ذاته – النزوع الذي بدأ يظهر لدى بعض الجماعات – المعارضات – التي باتت ترى أن التمّسك بحرفية القرارات الدولية في ظل موازين القوى الراهنة لن يجدي نفعاً، ولا بدّ من إبداء المزيد من المرونة الإجرائية، بل والتنازلات التي من شأنها إحراج الخصم، ومن ثم جرّه إلى طاولة المفاوضات، من هؤلاء في الحالة السورية الراهنة من قبلوا اعتماد مخرجات سوتشي بدلاً من جنيف، ووافقوا على اختزال القضية السورية بلجنة دستورية ما تزال – في أفضل الحالات – مجهولة النتائج والمصير، وقد فات هؤلاء جميعاً ان المضيّ نحو أي عملية  تفاوضية بشروط منقوصة، سيؤدي بالتأكيد إلى نتائج منقوصة، فضلاً عن أن أي تنازل عن الحقوق تحت وطأة موازين القوى لن يكون رادعاً للغاصب عن الاستمرار في نهش الضحية، بقدر ما يكون دافعاً له في الاستمرار في عدوانه، ولعل المآلات التي انتهت إليها ما تسمى ( مناطق خفض التصعيد) خير دليل على ذلك. أصحاب هذا الاتجاه بات لديهم جواب جاهز يجابهون به أي معترض في سبيلهم: ما هو البديل؟ وبقدر ما يجيء السؤال وجيهاً للوهلة الأولى، إلّا أنه يخفي في تضاعيفه قدراً كبيراً من سوء الطويّة، لأنه ينطوي على اعتراف ضمني بأن المضيّ في هذا الاتجاه هو سيرٌ في الاتجاه غير الصحيح من حيث المبدأ، ولكن السبب في الاستمرار بهذا النهج هو عدم وجود البديل، والأمر الآخر، وهو الأكثر خطورةً ، هو يقينهم بأن التفاوض مع نظام الأسد ، وفقاً للآليات والطريقة التي شهدناها، سوف يُنتج البديل أو الخلاص من المقتلة الأسدية.

لعلّ انسداد الأفق وعدم وجود معطيات حقيقية تحيل إلى اهتمام دولي بإيجاد حل للقضية السورية، يؤكّد أن الدول الكبرى ذات النفوذ الأقوى في الشأن السوري ( روسيا – أميركا) ما تزال مشغولة بإدارة الأزمة السورية أكثر من التفكير في إيجاد الحلول، وفي ضوء ذلك، هل ستظل العملية السياسية، كما يريدها النظام وحلفاؤه هي القفص الذي تفرفح داخله اللجنة الدستورية، بينما بقية السوريين يقفون متفرجين متسائلين عما ستفضي إليه هذه الفرفحة؟ ألا يمكن التفكير بإيجاد جبهات جديدة في موازاة المفاوضات الراهنة؟ وإذا كان نظام الأسد ما يزال مُحصّناً عسكرياً بفضل روسيا وإيران، وهو محصّنٌ سياسياً بسبب النأي الأميركي عن التدخل المباشر، وكذلك بوجود الفيتو الروسي في مجلس الأمن، أليس من الممكن فتح مواجهة حقوقية مع النظام في جميع أنحاء العالم؟ وخاصة أن مواجهةً كتلك، كان لها إرهاصاتها الفعلية ونتائجها الإيجابية، وأعني بذلك الجهود الجبارة التي بذلها المجلس السوري الأميركي عبر سنوات من العمل الدؤوب، وقد أثمرت بصدور قانون قيصر، ولا نستثني من تلك الإرهاصات ما تقوم به جهات سورية من منظمات وشخصيات حقوقية في أكثر من دولة أوربية برفع دعاوى جنائية بحق أزلام النظام وجلاديه، بما في ذلك رأس النظام وكبار ضباطه وحاشيته الإجرامية، ألا يمكن لهذه الجهات الحقوقية الفاعلة أن يتحوّل عملها من الصعيد الفردي إلى أطر جماعية أكثر تنظيماً، بحيث تصبح كيانات ذات بنية تنظيمية وإدارية، وتغدو أبوابها مشرعةً لذوي الاختصاصات والكفاءات وفقاً لمعايير مهنية محدّدة، ولا يمنع أن يكون بين هذه الكيانات الحقوقية والكيانات الرسمية الأخرى للمعارضة أشكال من التنسيق والتعاون طالما أن المعركة واحدة، ربما لا يكون لـمواجهة كهذه مردودها النوعي المباشر والمؤثّر على موازين القوى الراهنة، ولكن بالتأكيد سوف يكون مساهمة فعّالة في إبقاء القضية السورية محتفظةً بحمولتها الأخلاقية والسياسية، وبعيدة عن الاندثار والتجاهل.

لقد أخطأت قوى المعارضة السورية حين تجاوزت الملفّات الإنسانية مُلزِمة التنفيذ الواردة في القرار 2254، وذلك نتيجة ضغوط إقليمية ودولية، إمّا ظنّاً منها بعدم أهمية تلك الملفات، أو اعتقاداً بأنها سوف تحصد ثمن تجاوزها في مكان آخر، ولكن واقع الحال يؤكد أن مجاراة الإرادات الدولية كانت كمن يتخلّى عمّا بين يديه من أوراق، واحدة تلو أخرى.

قضايا المعتقلين السوريين في السجون والمغيبين، والذين قضوا تحت التعذيب، وقد بلغوا مئات الآلاف، وكذلك قضية المُهجّرين والنازحين في مخيمات الداخل السوري، هي قضايا لا تموت ولا تسقط بالتقادم، والجناة ما يزالون أحياء، وهم مستمرون بممارسة إجرامهم، وبدلاً من أن تكون هذه القضايا مجرّد بنود باهتة مُدرجة في إحدى وثائق اللجنة الدستورية، لماذا لا تكون بوّابة لمواجهة حقيقية مع النظام، وهي بالتأكيد لن تكون مواجهة على هامش المفاوضات السياسية، بل من صلبها.