هل ستنسق تركيا مع الأسد ضد "وحدات الحماية"؟

2019.10.31 | 16:42 دمشق

unitaprotezionekurdi.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ أن بدأت تحركات تركيا السياسية والعسكرية ضد الكيان الانفصالي الذي تعمل "وحدات الحماية" على تأسيسه شمال شرق سوريا وصولاً إلى شمالها الغربي على مقربة من الحدود التركية، ظهر رأي متصاعد يعتقد بأن أنقرة ستقبل في لحظة ما التنسيق مع نظام الأسد ضد الوحدات المرتبطة بقيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل بالعراق، واستدل أصحاب هذا الرأي على صحة وجهة نظرهم بما حصل في العراق، حيث فضلت تركيا التنسيق مع "الحكومة المركزية" من أجل تنفيذ عملياتها في "جبال قنديل"، معتبرين أنه لو تم حصر خيارات أنقرة بين وحدات الحماية ونظام الأسد، فإنها ستختار إعادة العلاقات مع الأخير.

للوهلة الأولى يبدو أن هذه الفرضية منطقية وواقعية، على اعتبار أنها ستضمن لتركيا التخلص من مشروع يهدد أمنها القومي ووحدة أراضيها، إلا أنها تغفل سياقات تاريخية مهمة لا بد من النظر إليها عند الحديث عن العلاقة بين تركيا ونظام الأسد، حيث ارتبط حزب العمال الكردستاني وزعيمه "عبد الله أوجلان" بعلاقات متينة مع نظام الأسد الأب منذ عام 1979 عندما دخل "أوجلان" الأراضي السورية ليعقد فيها المؤتمر الأول عام 1981، ثم المؤتمر الثاني عام 1982 الذي جرى من خلاله إعلان الحزب للعمل المسلح ضد تركيا انطلاقاً من الأراضي السورية من أجل تأسيس دولة كردستان الموحدة التي يجب أن يحكمها نظام اشتراكي، وهو النظام السياسي والاقتصادي الذي يتبناه حافظ الأسد.

وتوجت العلاقة بين "العمال الكردستاني" و نظام الأسد بافتتاح معسكرات تدريبية للحزب عام 1992 في مناطق ( صحنايا – شبعا – النشابية) بريف دمشق، تم من خلالها تدريب المئات من كوادر "العمال الكردستاني"، الذين اشتركوا لاحقاً في العمليات العسكرية ضد الجيش التركي، التي استمرت من عام 1984 حتى عام 1999، وسعى النظام خلال تلك الفترة الزمنية لتأسيس كيان كردي سوري مرتبط بـ "العمال الكردستاني" بزعامة ضابط  كردي مُنتمٍ للاستخبارات السياسية ويدعى "مروان زركي"، وتنصيب معاون له وهو : صالح مسلم الذي تزعم لاحقاً حزب الاتحاد الديمقراطي.

وعندما تم اعتقال "أوجلان" من قبل الاستخبارات التركية في العاصمة الكينية "نيروبي" عام 1999، أوقف حزب العمال الكردستاني العمليات ضد أنقرة وسحب عناصره من الأراضي التركية، مما شكل إحراجاً لنظام الأسد الأب الذي استثمر في هذا الصراع لعقدين من الزمن من أجل استنزاف تركيا، الأمر الذي أجبر النظام على إغلاق معسكرات الحزب بريف دمشق، والتوقيع على اتفاقية "أضنا" التي تتيح لتركيا التوغل بعمق 5 كيلومترات داخل الأراضي السورية من أجل محاربة التنظيمات الإرهابية، وقبل النظام بالاتفاقية بعد تلويح أنقرة بالخيار العسكري وحشدها لألوية عسكرية على حدودها الجنوبية مع سوريا.

تعرض حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني) في الفترة الممتدة بين عام 2003 و 2011 لقمع من النظام السوري، حيث جرى اعتقال أكثر من 1000 عضو عاملين في الحزب، إلا أنه ومع انطلاقة الثورة السورية في آذار/ مارس عام 2011، بدأ الصراع بين حزب الاتحاد الديمقراطي ونظام الأسد يتراجع تدريجياً، إلى أن تفاهم الطرفان في حزيران / يونيو عام 2012 ضمن

توطدت العلاقات بين الحزب وطهران عام 2013 بعد وصول "جميل باييك" لرئاسة اللجنة التنفيذية لحزب العمال الكردستاني، الذي وافق على عدم شن أي عمليات عسكرية ضد إيران

اجتماع في مدينة حلب على ترك النظام الأحياء الكردية في حلب والشريط الحدودي شمال شرق سوريا لإدارة حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه المسلح "وحدات الحماية"، على أن يلتزم الأخير بمنع أي نشاطات مناهضة لنظام الأسد في تلك المناطق، وأن ينسق الطرفان ضد تركيا التي تصاعد دعمها لثورات الربيع العربي وخاصة الثورة السورية.

ولعبت إيران دوراً مهماً في توطيد العلاقة بين حزب العمال الكردستاني ونظام الأسد، حيث مارست بعض الضغوط على الحزب في عام 2011 كقصف مواقعه في "جبال قنديل"، واعتقال رئيس اللجنة التنفيذية "مراد قره إيلان"، واشترطت تعاون "العمال الكردستاني" مع نظام الأسد في قمع الثورة السورية مقابل وقف الضربات ضده وإطلاق سراح "إيلان"، وتوطدت العلاقات بين الحزب وطهران عام 2013 بعد وصول "جميل باييك" لرئاسة اللجنة التنفيذية لحزب العمال الكردستاني، الذي وافق على عدم شن أي عمليات عسكرية ضد إيران، وشرع في التنسيق معها بالتزامن مع تسخين الجبهات التركية فقط.

ورغم وجود العديد من المراكز الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة الحسكة، فإنها لم تتحرك لمنع مشروع "الإدارة الذاتية" عام  2013، وسبقتها تصريحات لـ "أوجلان" من محبسه في تركيا أكد فيها أنهم سيدعمون نظام الأسد في حال وافق على نمط إدارة ذاتي للمناطق الكردية شمال شرق سوريا، الأمر الذي أعطى مؤشراً واضحاً لتركيا أن نظام الأسد لايزال يستثمر في ورقة حزب العمال الكردستاني، وأن مقاربته لحل القضية الكردية مختلفة عن المقاربة التركية، خاصة في ظل وجود نوع من التوافق الأيديولوجي بين الحزب الكردي اليساري والنظام السوري الذي يتبنى نظريات اشتراكية.

مؤخراً أوحى تفاهم "سوتشي" الذي جرى توقيعه بين تركيا وروسيا في آواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أن تركيا في طريقها للقبول بانتشار قوات نظام الأسد قرب حدودها كبديل لوحدات الحماية، إلا أن مجريات الأحداث لاحقاً وتوسع عملية "نبع السلام" التي يشنها الجيشان "الوطني السوري" والتركي إلى خارج المنطقة الممتدة من رأس العين حتى تل أبيض، واستهدافها لمواقع مشتركة بين "وحدات الحماية" ونظام الأسد، وإعلان وزارة الدفاع التركية  يوم أمس "القبض على 18 عنصراً يتبعون لنظام الأسد"، كل ذلك أعطى مؤشرات واضحة على أن أنقرة مدركة حجم العلاقة بين حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري ونظام الأسد، وأنها لن تقبل بتكرار ما حصل في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لكنها استفادت من مذكرة "سوتشي" لشرعنة دخولها إلى شمال شرق سوريا بمقتضى اتفاق مباشر مع روسيا، التي حاولت مراراً دفع تركيا للقبول باتفاقية أضنا كإطار لتحركها على الأراضي السورية، الأمر الذي يعني في حال حصوله اعترافاً ضمنياً من أنقرة بشرعية نظام الأسد الحالي الذي كان طرفاً في تلك الاتفاقية.

إن اعتراف تركيا بشرعية النظام السوري وقبولها التنسيق المشترك معه سيعني بطبيعة الحال موافقتها على التحرك ضمن الهامش الذي ستتيحه التفاهمات مع النظام، ما يعني تحجيم دورها وعدم قدرتها على تنفيذ أهدافها المتمثلة في مكافحة الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني ومنعه من تهديد الأراضي التركية وهذا يتطلب التوغل لعمق يزيد على 40 كيلومتراً، بالإضافة إلى رغبة تركيا في تمهيد الأرضية المناسبة لإعادة المهجرين قسرياً من شمال شرق سوريا، وهم في الغالب من المكون "العربي السنّي" ، لأن عودة السكان الأصليين إلى مناطقهم كما حصل مؤخراً في "تل أبيض"، يعتبر

حجم العلاقة والارتباط بين إيران ونظام الأسد وانحياز الأخير إلى جانب طهران أمر غير مريح بالنسبة لأنقرة التي ترى في المشروع الإيراني وتمدده إلى سوريا والعراق تهديداً لمصالحها

ضماناً لإعاقة وصل الكانتونات التي سعت "وحدات الحماية" لإقامتها في سوريا، وهذه الخطوة صعبة التحقق في حال انتشر النظام السوري في تلك المنطقة على اعتبار أن غالبية المهجرين قسرياً منها من الشريحة المعارضة للنظام.

لا يزال خيار تركيا المفضل هو التنسيق مع روسيا (وليس إيران ولا نظام الأسد) في سوريا، لأن أنقرة تعتقد بامكانية التوصل إلى تفاهم لاحقاً مع موسكو، يتضمن تغييرات في النظام السوري الحالي بما يحقق لها بعض المصالح، وأبرزها تغيير البنية الطائفية للنظام الحالي وتحويله إلى حكومة تمثل مختلف فئات الشعب، لأن تركيا تخشى من لعب النظام السوري بالورقة الطائفية ضدها، كما أن حجم العلاقة والارتباط بين إيران ونظام الأسد وانحياز الأخير إلى جانب طهران أمر غير مريح بالنسبة لأنقرة التي ترى في المشروع الإيراني وتمدده إلى سوريا والعراق تهديداً لمصالحها.

خلاصة القول: لقد استثمرت تركيا في الثورة السورية لفترات طويلة، وأوجدت روابط مع فصائلها العسكرية المنضوية ضمن "الجيش الوطني السوري" حالياً والبالغ عددها أكثر من 100 ألف مقاتل، واعتمدت عليها سابقاً في عمليتي "درع الفرات" و "غصن الزيتون"، ومنعت بالقوة العسكرية دخول قوات الأسد إلى "عفرين"، بالتالي ليس من السهل عليها التخلي عن إستراتيجيتها في سوريا والانقلاب عليها بشكل كلي، لأنها عندها ستغامر بروابطها مع المعارضة السورية وفصائلها، وهي تدرك أن نظام الأسد لن يقدم لها الكثير، بل قد يتم استثماره من قبل إيران أو إسرائيل من أجل محاصرة تركيا في حال استعاد كامل السيطرة على الأراضي السورية، لكن في نفس الوقت فإن تركيا عملت منذ عام 2016 على تدوير زوايا الخلاف مع روسيا والتراجع عن مطالبتها برحيل نظام الأسد، من أجل الاستفادة من التفاهمات مع موسكو لتوسيع نفوذها في سوريا، الذي يزداد منذ عملية "درع الفرات" حتى اليوم، وتزداد معه رقعة مساحة سيطرة "المعارضة السورية" بعد أن كادت تتلاشى.

يمكن القول إن تركيا حزمت أمرها بالاعتماد على نفسها وتحالفها مع المعارضة السورية من أجل تحقيق مصالحها في سوريا، واستفادت كثيراً من المناورة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ونجحت في ذلك حتى الآن، وهي غير مضطرة في المدى القريب والمتوسط لتغيير سياستها ما لم تحصل متغيرات كبيرة تجبرها على ذلك، خاصة في ظل المطالبات الدولية بإجراء عملية انتقال سياسي في سوريا، وقطع غالبية الدول لعلاقاتها المباشرة مع نظام الأسد.