هل ستجلب الجنائية الدولية العدالة لضحايا الجرائم الإسرائيلية؟

2021.02.21 | 00:05 دمشق

po.jpg
+A
حجم الخط
-A

قررت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أن الأراضي الفلسطينية تقع ضمن ولايتها القضائية، ما يمهّد الطريق لمدعيتها العامة أن تفتح تحقيقات بشأن جرائم الحرب التي ارتكبت على هذه الأراضي. وجاء الإعلان بعد أن قررت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة بالأغلبية، أن الاختصاص الإقليمي للمحكمة يمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وهي غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. وأضاف القرار أن الشروط المسبقة لممارسة اختصاص المحكمة وفقا للمادة 12(2-أ) والمادة 13 متوفرة في حالة فلسطين. فهل حان الوقت لإنصاف ضحايا المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين على مدى العقود الماضية، وإحقاق العدالة، ومحاكمة المسؤولين عن هذه المجازر؟

ربما ما يزال من المبكر الحكم على هذا التساؤل، لكن ما يمكننا قوله إن عجلة العدالة الدولية قد بدأت رغم الصعوبات الكثيرة التي ستقف أمامها. تحاول هذه المقالة استعراض أهم المحطات الرئيسة التي قادت إلى هذا القرار التاريخي للمحكمة الجنائية الدولية، وردود الفعل الدولية تجاهه، والعقبات التي ستواجه المحكمة خلال المرحلة المقبلة.

يدرك المراقب لعمل المحكمة الجنائية الدولية خلال السنوات الأخيرة خاصة في عهد المدَّعية العامة "فاتو بنسودا" أن المحكمة تسعى لإثبات أنه لا يوجد أحد فوق القانون، وأن عدم انضمام بعض الدول القوية لميثاقها – مثل إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية وروسيا- لن يثنيها عن الوصول إلى مسؤوليها ومحاكمتهم، وأنها لن تنصاع للتهديدات التي تتعرض لها من قبل بعض الدول بفرض عقوبات دولية على قضاتها وموظفيها.

ردود الفعل الدولية

وعلى صعيد ردود الأفعال الدولية تجاه القرار الأخير للمحكمة، رحبت الجهات الفلسطينية بالقرار، وأعلنت السلطة الفلسطينية أنه تم الشروع في التنسيق مع المحكمة لبدء تحقيقاتها، واعتبرت حركة حماس أن "الخطوة الأهم هي استكمال الخطوات المطلوبة لجلب مجرمي الحرب الصهاينة إلى المحاكم الدولية ومحاسبتهم". كما رحبت جامعة الدول العربية بالقرار معتبرة أنه تتويج للجهود الدبلوماسية التي بذلتها فلسطين بدعم عربي وتضامن المؤسسات الدولية الصديقة. بالمقابل استنكر رئيس الوزراء الإسرائيلي قرار المحكمة واعتبره معادياً للسامية، واستهدافاً لدولة إسرائيل واصفاً إياها "بالهيئة السياسية". أما الولايات المتحدة الحليف الرئيس لتل أبيب فقد اعترضت على القرار، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس أن لدى بلاده "مخاوف جدية" بشأن جهود المحكمة الجنائية الدولية لتأكيد الولاية القضائية على الأفراد الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، معرباً عن قلق بلاده العميق حيال هذا القرار. في حين لم يصدر حتى الآن أي تعليق من الاتحاد الأوروبي حول موقفه من هذا القرار.

تعرضت فلسطين لضغوط دولية قادتها الولايات المتحدة وإسرائيل لمنع انضمامها إلى المحكمة الجنائية حتى عام 2014

تسلسل تاريخي

دخلت المحكمة الجنائية الدولية حيز النفاذ عام 2002، ومنذ ذلك الحين حاولت السلطة الفلسطينية الانضمام لميثاق روما الأساسي المُنشئ للمحكمة، إلا أن وضعها القانوني لم يمكِّنها من الانضمام لأنها لا تتمتع بوصف الدولة، وقد استمر الحال على ذلك حتى عام 2012 عندما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بالأغلبية منح فلسطين صفة "دولة غير عضو" في الأمم المتحدة، ما سمح لها بالمشاركة في أعمال المنظمة الدولية، والانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية المختلفة.

على أثر ذلك تعرضت فلسطين لضغوط دولية قادتها الولايات المتحدة وإسرائيل لمنع انضمامها إلى المحكمة الجنائية حتى عام 2014 حيث أطلقت القيادة الفلسطينية حملة دبلوماسية بدعم عربي ومن بعض الدول الصديقة بعد فشل محاولات لتمرير مشروع قرار دولي داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يضع جدولاً زمنياً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، حيث أودعت دولة فلسطين في 1 من كانون الثاني/يناير 2015، إعلانًا بموجب المادة 12 (3) من نظام روما الأساسي معلنة قبولها ممارسة المحكمة الجنائية الدولية لاختصاصها، فيما يرتبط بالجرائم المُرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية بأثر رجعي إلى 13 من حزيران/ يونيو 2014ـ، ليتزامن ذلك مع لجنة تقصي الحقائق في حرب غزة عام 2014. وأودعت أيضاً وثائق الانضمام إلى نظام روما الأساسي لدى الأمين العام للأمم المتحدة. كما وقعت أيضاً على اتفاقية الحصانات والامتيازات للمحكمة، وهو ما سيساهم في تسهيل عمل أعضاء المحكمة. وفي الأول من نيسان/أبريل 2015 أصبحت فلسطين رسمياً تتمتع بوصف العضوية الكاملة في المحكمة، أي بعد مرور ثلاثة أشهر على تاريخ إيداع وثيقة الإعلان بقبول اختصاص المحكمة.

بتاريخ 16 من كانون الثاني/يناير 2016 قرر مكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق مبدئي في الجرائم المرتكبة بناء على إعلان قبول اختصاص المحكمة من قبل دولة فلسطين واستمر هذا التحقيق ما يقارب الخمس سنوات.

في 20 من كانون الأول/ ديسمبر 2019، أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية عن انتهاء الفحص الأولي للوضع في فلسطين. وقررت أن جميع المعايير القانونية بموجب نظام روما الأساسي لفتح التحقيق تم استيفاؤها باستثناء تحديد النطاق الإقليمي للمحكمة في دولة فلسطين، أي تحديد المنطقة الجغرافية التي تقع تحت ولايتها لأنه لا توجد حدود سياسية واضحة متعارف عليها دولياً لدولة فلسطين. الأمر الذي دفع المدعية العامة في 22 من كانون الثاني/يناير 2020 إلى سؤال الدائرة التمهيدية مرة أخرى لبيان الرأي حول هذه المسألة، وبناء على هذا الطلب صدر القرار الأخير في الخامس من شباط/فبراير 2021 الذي أشار إلى أن الاختصاص الإقليمي للمحكمة يمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وهي غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا القرار تأخر لمدة عام كامل بسبب الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها المحكمة الدولية، حيث فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على قضاة المحكمة، كما هددت بمقاطعتها والحد من تمويلها.

الصعوبات والتحديات المستقبلية

يحظى قرار المحكمة الجنائية الدولية الأخير بأهمية قانونية كبيرة كونه يمنح المدعية العامة للمحكمة الصلاحيات الكاملة لمباشرة الإجراءات العملية والتحقيق في الجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون (عسكريون أو مدنيون) بحق الفلسطينيين منذ تاريخ 13 من حزيران/يونيو 2014 بما يشمل الجرائم التي اُرتكبت خلال حرب غزة عام 2014 التي أطلقت عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد" وراح ضحيتها أكثر من 2200 مدني وجرح أكثر من 11 ألف مواطن فلسطيني من أهالي قطاع غزة. كما يعتبر القرار انتصاراً للعدالة الدولية ولجميع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية التي قدمت مطالعات قانونية مهمة للمحكمة خلال نظرها في الطلب خلال السنوات السابقة، ويعتبر القرار أيضاً سابقة هي الأولى من نوعها تتبنى مساءلة إسرائيل عن جرائمها وإفلات مرتكبيها من العدالة.

ومن المتوقع أن تشمل تحقيقات المحكمة جميع الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وانتهاكات اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 التي ارتكبتها سلطات الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الجرائم الواردة في نظام روما الأساسي والقواعد الراسخة في القانون الدولي الإنساني. وسيشمل النطاق الجغرافي لولاية المحكمة كلاً من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية باعتبارها مناطق لا تزال تعتبر من الناحية القانونية الدولية تحت الاحتلال الحربي للكيان الصهيوني وهو ما أكدته عدد من القرارات الدولية بما فيها قرارَا مجلس الأمن الدولي (242 عام 1967، و338 عام 1973). وتشمل هذه الجرائم الاستيطان، وإبعاد السكان أو النقل القسري لهم وترهيبهم، الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربعة عام 1949، والفصل العنصري، والتدمير واسع النطاق لممتلكات الفلسطينيين والاستيلاء عليها، والجرائم المتعلقة بمعاملة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، والهجمات العسكرية على المواقع المدنية والبنية التحتية بما فيها المدارس والمستشفيات ودور العبادة.

لا يمكن للمحكمة التحقيق في الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني قبل 13 من حزيران/يونيو 2014 أي قبل انضمام فلسطين للمحكمة

من الناحية العملية هناك مجموعة من التحديات التي ستواجه المحكمة، أهمها: أن إسرائيل غير ملزمة بالتعاون مع المحكمة كونها ليست طرفاً في نظامها الأساسي، لذا من المتوقع أن تمنع تل أبيب وصول المحققين الدوليين إلى الأراضي الفلسطينية لإجراء التحقيقات وجمع الأدلة والاستماع إلى الشهود، وعرقلة عمل المحكمة على المستوى الدولي والتدخل في إجراءات التحقيق وعرقلته، وعدم السماح بالوصول إلى الضباط والمسؤولين الإسرائيليين الذين ستطلب المحكمة الاستماع إلى إفادتهم حول التهم الموجه لهم. لكن هذا لا يقلل من القيمة القانونية للقرار إذا ما أبدت الدول الأطراف في المحكمة تعاوناً لملاحقة هؤلاء في حال مغادرتهم إسرائيل.

ومن التحديات الأخرى التي تواجه المحكمة ما يتعلق باختصاصها الزماني حيث لا يمكن للمحكمة التحقيق في الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني قبل 13 من حزيران/يونيو 2014 أي قبل انضمام فلسطين للمحكمة وهذا يعني أن المجازر والمذابح الفظيعة التي ارتكبها هذا الكيان بحق الفلسطينيين ستبقى خارج إطار تحقيقات المحكمة. والتحدي الأخير الذي قد يواجه المحكمة في المضي قدماً في التحقيق يأتي من مجلس الأمن الدولي الذي يحق له وفقاً للمادة (16) من النظام الأساسي للمحكمة طلب إيقاف أو إرجاء التحقيق لمدة 12 شهراً قابلة للتجديد بناء على قرار يتخذه المجلس تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

أخيراً، لا شك أن المحكمة الجنائية لن تستطيع في ضوء الإمكانيات المتوفرة لديها إنصاف الضحايا وتحقيق العدالة الناجزة ومعالجة جميع الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين، لأن ذلك يحتاج لوقت طويل وعمل شاق يتعين على الفلسطينيين وحلفائهم دعمه بكل أوتوا من قوة، والعمل على مواجهة التداعيات الخطيرة التي قد يرتبها قرار المحكمة الأخير على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية حيث لا يمكن التكهن برد الفعل الإسرائيلي في حال باشرت المحكمة تحقيقاتها. مع ذلك، يبقى هذا القرار نقطة أمل تضيء في نفق طويل يتعين على الفلسطينيين السير فيه للوصول إلى العدالة الكاملة.