هل ثمة سياسة أميركية في سوريا؟

2022.12.05 | 06:31 دمشق

 هل ثمة سياسة أميركية في سوريا؟
+A
حجم الخط
-A

خلال حوار صحفي مع موقع "المونيتور" الأميركي قبل أيام، اشتكى القائد العام لقوات "قسد" مظلوم عبدي، من أنه ليس لدى الولايات المتحدة سياسة واضحة في سوريا، ويقتصر هدفها على محاربة تنظيم "داعش"، بينما الواقع في سوريا أعقد من ذلك بكثير، ويتطلب من دولة عظمى مثل الولايات المتحدة، ولديها قوات على الأراضي السورية، أن يكون لها سياسة أوسع من ذلك، خاصة مع تداخل مصالح أطراف محلية وإقليمية ودولية عديدة في القضية السورية.

ومن المفهوم أن عبدي لم يكن يقصد أنه ليس لدى واشنطن "رأي" معين في التطورات السورية المختلفة، لكن المقصود، وبنظر العديد من المراقبين أيضا، وليس عبدي وحده، أنه لا يوجد "انخراط" أميركي جدي في أية مسألة سورية، باستثناء محاربة "داعش"، وما عدا ذلك لا يتعدى مجرد تسجيل مواقف لا قيمة لها على أرض الواقع، في ظل انخراط القوى المنافسة بكل ثقلها لصالح هذا الطرف أو ذاك.

وإذا استعرضنا المواقف الأميركية منذ اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، فسنجد أنها "رخوة" وذات طابع "إعلامي" أكثر منها سياسة جدية ذات أهداف محددة، بالرغم من انهماك أكثر من مسؤول أميركي من الدرجتين الثانية والثالثة في تحديد بعض الأهداف الأميركية في بعض المراحل، إضافة إلى محاربة تنظيم الدولة، مثل الحد من التمدد الإيراني، ودعم الحل السياسي المستند إلى قرارات مجلس الأمن.

جاءت الخطوة العملية الأولى من جانب واشنطن بعد 3 أشهر أخرى، أي في أكتوبر تشرين الأول حين سحبت واشنطن سفيرها في دمشق، خوفا على سلامته، وليس كموقف من النظام السوري

وإذا استعرضنا الموقف الأميركي خلال السنوات الماضية، نلاحظ أنه منذ بداية الاحتجاجات الشعبية في سوريا، افتقدت السياسة الأميركية للحزم، وكانت دون توقعات المحتجين، رغم اعتماد قوات النظام على القمع المفرط في محاولة لإخماد تلك الاحتجاجات في مهدها. وبعد نحو ثلاثة أشهر من القمع الأمني، وبعد سقوط مئات الضحايا، وصف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بشار الأسد بأنه "فاقد للشرعية"، ولكنه لم يدعه للتنحي قبل شهر آب أغسطس 2011، وذلك خلافا للرئيس المصري حسني مبارك الذي دعاه للتنحي منذ الأيام الأولى للاحتجاجات في بلاده، برغم أنه كان محسوبا كحليف واشنطن.

وجاءت الخطوة العملية الأولى من جانب واشنطن بعد 3 أشهر أخرى، أي في أكتوبر تشرين الأول حين سحبت واشنطن سفيرها في دمشق، خوفا على سلامته، وليس كموقف من النظام السوري. وأبرز ما اشتهر به عهد أوباما هو "الخط الأحمر" الذي إذا تجاوزه النظام، فسوف تعيد الولايات المتحدة حساباتها مما يجري في سوريا، وكان يعني استخدام النظام للأسلحة الكيماوية. ولكن مع استخدام النظام فعلا للسلاح الكيماوي في آب أغسطس 2013 في الغوطة الشرقية، والذي ذهب ضحيته نحو 1400 قتيل، كانت استجابة إدارة أوباما بطيئة ومترددة، لينتهي الأمر بصفقة مع الروس لتجريد النظام من أسلحته الكيماوية، وصرف النظر عن الضربة العسكرية. وقاوم أوباما كل الضغوط عليه من داخل إدارته والكونغرس، ومن حلفائه العرب والأتراك للتدخل العسكري في سوريا، تماشيا مع ما عرف لاحقا بـ"مبدأ أوباما" القاضي بعدم التدخل العسكري في مناطق الصراع.

أما دخول القوات الأميركية إلى سوريا، فلم يكن هدفه مواجهة قمع النظام للمحتجين أو مساندة المعارضة السورية، بل لمواجهة تنظيم "داعش" التي استدعت بدء الغارات الجوية ضده في سبتمبر أيلول عام 2014، تحت مسمى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش.

أما عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، فلعل أبرز ما ميزه حيال سوريا، هي تقلباته المستمرة، وحرصه على الابتعاد عن سوريا وسحب قوت بلاده منها، إذ لم يكن يرى التدخل الأميركي هناك "استثمارا ناجحا" من وجهة نظر عالم البزنس الذي ينتمي إليه.

ورغم أن ترامب استخدم بدوره مصطلح "الخط الأحمر" بعد الهجوم الكيماوي على خان شيخون عام 2017، وعمد وقتئذ إلى إطلاق صواريخ كروز ضد أهداف في سوريا، ليصف لاحقا بشار الأسد بـ"الحيوان"، ويهدده بدفع ثمن باهظ بعد استخدامه مرة أخرى أسلحة كيماوية في مدينة دوما، حيث أطلقت البحرية الأميركية للمرة الثانية صواريخها، على مواقع في دمشق وحمص، إلا أن سياسة ترامب استقرت أخيرا على ضرورة الانسحاب الأميركي من سوريا، باعتبارها "قضية خاسرة" قائلا بوضوح إنه لا يهتم بمن يملا "الفراغ" الذي يتركه الانسحاب الأميركي، ولا يمانع أن تقوم أي دولة أو مجموعة دول بذلك، باستثناء إيران التي يقلق تمددها إسرائيل.

وباستثناء كثير من التصريحات الطنانة، ومحاولات نقل القضية السورية إلى مجلس الأمن ضمن مشاحنات ومساجلات مع روسيا، ظلت واشنطن تتحدث لفترة طويلة عن دعم لوجستي للمعارضة السورية وتبنّت برنامجاً "سرياً" لدعم بعض الفصائل التي تم تصنيفها على أنها معتدلة، ضمن شروط كثيرة، بينها عدم محاربة النظام السوري، وهو البرنامج الذي أوقفه ترامب على أية حال، لتتبخر بعدها مجمل مجموعات المعارضة التي تلقت دعما عسكريا أميركيا، باستثناء "جيش مغاوير الثورة" الذي ترك للمساهمة في حماية قاعدة التنف الأميركية عند مثلث الحدود السورية -العراقية -الأردنية.

السياسة الأميركية بلا فاعلية حقيقية باستثناء قدرتها على ممارسة بعض الضغوط على تركيا، والحد من التمدد الإيراني في شرق الفرات، دون الانخراط في أي مسعى جدي، سياسي أو عسكري

أما في عهد إدارة جو بايدن الحالية، فقد حاول بعض المسؤولين الأميركيين، تحديد بعض النقاط التي ترتكز عليها هذه السياسة مثل المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، والحالي إيثان غولدريتش، اللذين قالا إنه ليس لدى واشنطن سياسة لتغيير النظام في دمشق، وإنما تريد تغييرات في الحكم، وإنه لن تكون هناك أموال لإعادة الأعمار، ولن يكون هناك تطبيع سياسي مع النظام ولا عودة الشرعية له قبل تغيير سلوكه، إضافة طبعا إلى محاربة "داعش" وانسحاب القوات والميليشيات الإيرانية من سوريا، ودعم العملية التي تقودها الأمم المتحدة بشأن حل سياسي للحرب السورية.

واليوم، وبعد أكثر من 10 سنوات على أحداث سوريا، ومع التصعيد العسكري في الشمال السوري، يتضح مجددا أن السياسة الأميركية بلا فاعلية حقيقية باستثناء قدرتها على ممارسة بعض الضغوط على تركيا، والحد من التمدد الإيراني في شرق الفرات، دون الانخراط في أي مسعى جدي، سياسي أو عسكري، لإنهاء المحنة السورية، وهو ما ينقسم المحللون حول أسبابه، وهل مرده غياب الرؤية الاستراتيجية، وتحديد الأهداف والتصميم على بلوغها، كما يليق بدولة عظمى مثل الولايات المتحدة، أم إن هذا الأداء الذي يبدو مضطربا وقليل الفاعلية، هو سياسة واعية بحد ذاته، الهدف منها تشجيع تفاقم الأوضاع في سوريا، وتدحرجها نحو الأسوأ، بغية تحقيق أهداف استراتيجية تخص حليفتها الوثقى في المنطقة، إسرائيل. على الأرجح أن الاحتمال الثاني هو الصواب.