هل بدأ الأوروبيون يستشعرون خطر خطاب اليمين "الشعبوي"؟

2021.05.26 | 06:56 دمشق

44_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

سيدة دنماركية اسمها "جولي"، نشرت على صفحتها في "الفيس بوك" صورة لها ولابنتها، وهما تحملان لافتتين على شكل قلب أحمر كتبتا عليهما: "أيها السوريون لكم ولأطفالكم متسع هنا، نحبكم ولا يجوز أبداً أن يُرَحّل أي شخص إلى ساحات الحرب والموت".

الأربعاء 19/5/2021، اتجه الدنماركيون إلى ساحات التظاهر في أربع وعشرين مدينة دنماركية، كانت الرسالة الواضحة التي حملوها على لافتاتهم، وقالوها في هتافاتهم، إنّهم يرفضون سياسة حكومتهم فيما يخص اللاجئين.

"تيم وايت"، الأمين العام لمنظمة «أكشن إيد»، المشاركة في تنظيم المظاهرات قال (نريد أن نقول للحكومة، أنّنا نخجل حقاً من التراجع الذي يحصل حالياً في حقوق اللاجئين).

إلى جانب ما قاله المتظاهرون، أو كتبوه، في لافتاتهم وهتافاتهم، كانت هناك رسائل أخرى، رسائل بالغة الأهمية قالتها هذه المظاهرات، وخصوصا مظاهرة العاصمة "كوبنهاغن"، والتي تحدثت معظم الصحف الدنماركية عن ضخامة عدد المشاركين فيها، والذي تجاوز الـ 27 ألف متظاهر، وهذا يعتبر رقماً كبيراً في حياة الدنمارك السياسية.

خمس رسائل وجهها الدنماركيون في مظاهراتهم، كانت الرسالة الأولى مباشرة وواضحة إلى حكومتهم، وطالبوها بوقف سياسة اللجوء الجائرة التي تنفذها، وأعلنوا رفضهم التام لها

خمس رسائل وجهها الدنماركيون في مظاهراتهم، كانت الرسالة الأولى مباشرة وواضحة إلى حكومتهم، وطالبوها بوقف سياسة اللجوء الجائرة التي تنفذها، وأعلنوا رفضهم التام لها.

الرسالة الثانية كانت مباشرة وواضحة أيضاً، ووجهها المتظاهرون إلى اللاجئين عموماً، والسوريين منهم خصوصاً، وتقول لهم: (لن نترككم، سنقف إلى جانبكم وجانب أطفالكم، نحن نحبكم، وهذه البلاد تتسع لكم).

الرسالة الثالثة، وكانت أيضاً مباشرة وواضحة إلى النظام السوري، عندما أجمع المتظاهرون على توصيف رأس النظام بالديكتاتور والقاتل، مستغربين قرار حكومتهم بإرسال السوريين إلى الموت.

الرسالة الرابعة، وجِهت بشكل غير مباشر إلى الكواليس المخفية في السياسة الدنماركية، والتي لها علاقاتها مع النظام السوري، وحليفه الروسي، وفحواها أن الدنمارك لن تكون بوابة لتعويم الأسد، ولا لتنفيذ ما يريده عبر أزلامه وعلاقاته.

الرسالة الخامسة، وهي الأهم من كل ما سبق كانت غير مباشرة، وموجهة لليمين الدنماركي وعبره لكل أحزاب اليمين الأوروبية، وهي أن الخطاب الشعبوي الذي ساقته هذه الأحزاب طوال السنوات الماضية، وحققت بسببه نتائج لم تكن تتوقعها في الانتخابات البرلمانية، لم يعد يحظى بالقبول الأعمى، وأن مخاطر هذا الخطاب على المجتمعات الأوروبية أصبح محسوساً.

المأزق الذي تعيشه الحكومة الدنماركية اليوم، والتي شكّلتها أحزاب الوسط ويسار الوسط، سيكون من الصعب عليها الخروج منه، فهي عندما خططت لسحب الكتلة الانتخابية المؤيدة لليمين إلى صفها، وضعت خطة ترتكز على ركيزتين:

الأولى: تجاهل خطاب اليمين، والتسامح معه، وعدم التصدي له، متعمدة عدم طرح خطاب بديل مناقض.

والثانية: الذهاب إلى إجراءات تتجاوز ما يطرحه اليمين بخصوص اللاجئين، معتقدة أنّها بتجاهلها له سيفقد خطاب اليمين معناه وجدواه، وأنّها بإجراءاتها ستسحب الكتلة الناخبة لليمين إلى صفها، لكنها لم تنتبه إلى أنّها تكون بذلك قد دفعت بالمجتمع الدنماركي كله إلى حضن اليمين، ولم تنتبه إلى أن ما تفعله سيرغم الكتلة الصامتة اللامبالية على الانخراط في مواجهتها، بعد أن يتلمسوا بشكل حقيقي مخاطر ما تفعله، وعليه فإن ما هربت منه هذه الأحزاب ستقع فيه على نحو أشد ضرراً، فهي ستفقد جزءاً مهما من كتلتها الانتخابية، ولن تستقطب ناخبين من كتلة اليمين.

الخطاب "الشعبوي" الذي طغى في السنوات الماضية على المشهد السياسي الأوروبي، تجاوز تأثيره صناديق الانتخاب، ليهدّد اليوم بنية هذه المجتمعات، وصيغتها السياسية، ويضعها في مواجهة صعود قوى متطرفة

نتائج المعركة التي يخوضها اليمين الدنماركي، لن تطول فقط الأحزاب اليمينية الدنماركية، بل ستنعكس مباشرة على مجمل الأحزاب اليمينية في القارة الأوروبية، والخطاب "الشعبوي" الذي طغى في السنوات الماضية على المشهد السياسي الأوروبي، (ساعده في ذلك أمران مهمان، هما وصول  "ترامب" بخطابه الشعبوي إلى موقع الرئاسة في الولايات المتحدة، وتعزيز "الإسلاموفوبيا" في المجتمعات الغربية بعد ظهور "داعش"، وسلسلة اعتداءات إرهابية حصلت في العديد من المدن الأوروبية )، تجاوز تأثيره صناديق الانتخاب، ليهدّد اليوم بنية هذه المجتمعات، وصيغتها السياسية، ويضعها في مواجهة صعود قوى متطرفة، تُعيد إلى أذهان الأوروبيين مرحلة صعود الفاشية، التي أوصلت البشرية إلى حربها العالمية الثانية.

حتى اللحظة لا يبدو الصوت الذي بدأ يعلو لمواجهة خطاب اليمين في أوروبا قوياً بما يكفي، وخصوصاً في الدول التي أصبح فيها هذا اليمين قاب قوسين من تحقيق أغلبية برلمانية تتيح له تشكيل الحكومة، وتتيح له أيضا إمكانية إجراء تعديلات قانونية، تُعزز من حضوره وتحميه.

باعتبار كل ما سبق، يمكن القول: إن المظاهرات التي خرجت في معظم مدن الدنمارك ضد قرارات الحكومة، وتصاعد خطاب يدق ناقوس الخطر، ويحذر من التوغل في هذا الطريق، هي مواجهة ليست بين الشعب الدنماركي وحكومته فقط، بل هي بداية مرحلة جديدة من المواجهة بين اليمين الأوروبي كلّه، وبين الشعوب الأوروبية.

هل تعيد الأحزاب الأوروبية كلّها، من أقصى يمينها حتى أقصى يسارها حساباتها من جديد؟ فالمشهد اليوم يشير إلى أن المعادلة قد تنقلب، وأن كتلة الناخبين غير المهتمة لم تعد كما في السابق، فالخطر أصبح أكثر وضوحاً، والأمر لن يطول فقط قضية اللاجئين، بل قد يصل إلى ما هو أخطر.

بالأمس أعلنت الأحزاب المشكِّلة للحكومة الدنماركية ردّها على المظاهرات، عندما صوّتت في البرلمان على إنشاء مركز جديد لترحيل اللاجئين، وكانت رسالتها الواضحة أنّها ماضية في سياستها، وأنّها لن تستمع للأصوات الرافضة، وأيضاً ردّت الجهات الرافضة عليها بالقول:

(إن التظاهرات الأخيرة ما هي إلا البداية، وغداً سيكون لنا كلام آخر).