هل الكلوب هاوس السوري وسيلة تواصل؟

2021.11.09 | 05:09 دمشق

42021416554570.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد مرور قرابة العام على انطلاقة قناة الجزيرة الفضائية سنة 1996، وكنت حينذاك طالب دراسات عليا في فرنسا، عهد لي أستاذي بأن أكتب بحثا عن هذه التجربة الجديدة مشاركاً في كتاب مشترك يتطرق في مجمله إلى الإعلام الحديث في الفضاء العربي الذي كان مقيداً بمحطات الأنظمة السياسية معدومة الديمقراطية. ولتنفيذ هذا العمل، فقد عمدت إلى إجراء بعض المقابلات مع صحفيين ومهتمين بالمسألة الإعلامية، كما قمت بمتابعة ساعات طويلة من البرامج والنشرات الإخبارية سعياً لكي أقدم على الكتابة بالاستناد إلى مادة ثرية نسبيا تتيح لي الاستفادة من نظريات علم التواصل الحديث ومقاربة التجربة عبر زاويتها. وقد خلصت إلى العديد من الاستنتاجات التي ما زالت حتى اليوم تتكرر في الدراسات الجادة بعيداً عن لغة التهليل والتهويل.

إن ارتفعت حرارة العلاقات مع إسطنبول، كانت الشخوص العثمانية متنورة وإيجابية، وعندما تسوء هذه العلاقات، فالشيطان يكاد يكون أكثر إيجابية من العثماني المقيت

بعد الورقة البحثية التي خصصتها لهذه التجربة الرائدة التي احتفل أصحابها بمرور ربع قرن على إنشائها منذ عدة أيام، التفت إلى مسألة إعادة قراءة التاريخ السوري من خلال الإنتاج المتعاظم للمسلسلات التلفزيونية التي تعالج التاريخ القريب والتي بدأت تعرف طريقها إلى التوزيع الواسع في بدايات الألفية الثالثة. فتوقفت عند أبرزها وما تحمله، ليس فقط من رسائل اجتماعية أو ثقافية، بل خصوصا في بعدها السياسي المتغير. وعلى سبيل المثال، فحينما كانت علاقات النظام السياسي السوري جيدة نسبيا مع فرنسا وكانت هناك حاجة لنظام الوريث في تسويق نفسه غربياً، تحوّل الانتداب الفرنسي وبشخوصه العسكرية إلى عنصر إيجابي المعالجة بعيداً عن الكاريكاتورية المعادية التي كانت تستخدم لتقديمه إلى المشاهدين من قبل. ومنطق التعامل مع الآخر هو نفسه فيما يخص الفترة العثمانية، فإن ارتفعت حرارة العلاقات مع إسطنبول، كانت الشخوص العثمانية متنورة وإيجابية، وعندما تسوء هذه العلاقات، فالشيطان يكاد يكون أكثر إيجابية من العثماني المقيت.

في فترة لاحقة، توقفت عند معضلة الإنترنت السوري وبداياته وكتبت في هذا الموضوع عدة بحوث نشرت جلها باللغة الإنجليزية في جامعة أمستردام الهولندية. فمن علاقة المعلوماتية الوثيقة بإرادة شخص متمثل بابن رئيس الجمهورية قبل أن يرث هو نفسه الجمهورية، إلى الطرائف المرتبطة بمنح كلمات السر من قبل المخدّم، وصولاً إلى حالة ضعف الشبكة البنيوي، كما واختراقها شديد السهولة على رعاة الأمن من رجال السلطة وذلك قبل أن يخترع الإسرائيليون برنامج التجسس العتيد "البيغازوس" بعقود. كما قمت بمراجعة تحليلية لعدد من النصوص التي بدأت بالانتشار على الشبكة العنكبوتية السورية من خلال تصنيفها الفكري والعقائدي واعتماداً على منهجية تحليل الخطاب.

وقد حازت الشبكة العنكبوتية السورية خصوصاً والعربية عموماً على اهتمامي لعدة سنوات حيث تابعت مع طلبتي تطورها وتطور آليات متابعتها ومراقبتها. ولم تمض سنوات قليلة إلا وبدأت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة بغزو المشهد العربي وساهمت في تغيير كثير من مظاهره التعبيرية. وقد وصلت شدة الاهتمام بها من قبل باحثين غربيين وعرب إلى الدرجة التي اعتبروا أن انتشارها ساهم إلى حد كبير في ثورات الربيع العربي التي أجهضت لاحقاً. وقد عنونت بعض المراكز البحثية أوراقها وكتبها المنشورة حول الموضوع جهاراً كالتالي: ثورة الفيس بوك (...)، الفيس بوك عنصر أساسي في الربيع العربي (...)، كيف أنقذ الفيس بوك الثورات العربية من الفشل (...) إلخ.

كان عملي البحثي ينصب على وضع هذه الأحكام المطلقة في خانة النسبية وربطها بالواقع الاجتماعي وإسنادها إلى أرقام الأمية المباشرة كما إلى نسب الأمية الحاسوبية التي كانت تكتنف عدداً كبيراً من المنخرطين في الحركات الاحتجاجية في بداياتها. مع الإشارة بالطبع إلى تطور المعرفة بهذه الوسائل تباعاً وإلى لعبها دوراً في الترويج والتحشيد.

صار الكلوب هاوس السوري يحتاج أكثر إلى بحث مرتبط بعلم النفس أكثر منه من علم السياسة وعلم الاجتماع

بناءً على ما سبق، فقد توصل معي ناشر أكاديمي مرموق لتخصيص بحث يمكن أن يصدر في كتاب على أن يكون باكورة البحث العلمي الاجتماعي والسياسي المرتبط بظاهرة حديثة شكلت فضاءً جديداً في حديقة وسائل التواصل وهي "الكلوب هاوس". وللقيام بتنفيذ هذا المشروع، اخترت حصر المسألة بدايةً بالمشهد السوري. فسخّرت وقتاً ثميناً لمتابعة "الغرف" التي تعكس مختلف أفكاره ومواقفه وتحولاته ووصولاً حتى إلى تقدير أهمية انتشاره مقارنة بمن سبقه من وسائل التواصل بالرغم من نخبويته العددية. وككل باحث مجتهد (...) وضعت استنتاجات صوب عيني لأصل إلى التأكد من تحققها أو إمكانية تحققها في محصلة البحث. وقد حملني الخيار السوري إلى إهمال ما تبقى من تجارب عربية وأجنبية إلا فيما ندر وذلك لعدم إضاعة الوقت، كما حسبت، في أمور طرفية. وبعد أن مضت أشهر على هذه المتابعة اللصيقة، وانتظار تطور الاستخدام البشري لهذه الوسيلة من قبل سوريين هم في أكثر الأزمان حاجة للتواصل وللتقارب وللتبادل، بدأ الإحباط يتسلل رويداً رويداً إلى إرادتي حيث تبين لي بأن هذا الفضاء صار مليئاً بالعنف اللفظي وبخطاب الكراهية وبالاستعراض الفكري وبالمظلومية التنافسية. صار الكلوب هاوس السوري يحتاج أكثر إلى بحث مرتبط بعلم النفس أكثر منه من علم السياسة وعلم الاجتماع.

أرسلت لتوي اعتذاري إلى دار النشر محتفظاً بالأسباب الموجبة والمؤلمة لنفسي.