هل "الخيانة وجهة نظر"؟

2021.06.08 | 06:41 دمشق

tnzyl.png
+A
حجم الخط
-A

بالاستعارة من الراحل ناجي العلي، طرحت على نفسي في الأيام الأخيرة، وأنا المؤمن بالحوار وبالاختلاف وباحترام هذا الأخير رغماً عن كل القناعات والعقائد، سؤالاً وجودياً عما إذا كانت "الخيانة هي مجرد وجهة نظر"، وكذلك عن مفهوم الخيانة وتعريفاتها ومحدداتها ومن يحق له أو لا يحق أن يستخدم هذا التعبير لنعت شخصٍ، أو تصرفٍ، أو نصٍ أو موقفٍ أو إلى آخره. واختصر المسافة إلى نهاية هذا الكلام لأطمئن القارئ بأنني لم أحصل على جواب محدد ولن أخوض في جهالة سفسطائية تركناها نحن الجهلاء لأصحاب النيافة من ولاة أمورنا الرؤساء والملوك المتخصصين في تمييع الإجابات والهروب من الكلمات والالتفاف على المواقف. سأسجل هنا موقفاً شخصياً لا أدعو أحداً إلى تبنيه ولا للدفاع عنه ولا حتى لتقبله على مضض.

فبعد أن راهنت بعض الدول العربية الضعيفة فعلاً والقادرة شكلاً على التطبيع مع إسرائيل، أو بالأحرى القيام بالإعلان عن علاقاتها القديمة الجديدة مع دولة الاحتلال والممارسة العنصرية والترجمة الحداثية للمشروع الاستعماري المتجدد، فوجئنا بتبني هذا التوجه من قبل شخصيات تصدرت يوماً أو جرى تصديرها يوماً أو هي تعثّرت يوماً بالمصادفة بقضية الحرية والتخلص من الاستبداد. فبدا أن بعض الأسماء المبنية للمجهول تأبى أن تُنسى. ومهما كان الثمن فهي تبحث عن موقع في زحمة التهافت غير المجدي والذي لا يُغني راكضه وزاحفه إلا برضاً شكلي واحتقار ضمني حتى ممن ينحني ليقبل أيديهم ويلعق ما تحت أظافرهم القذرة.

وفي حمأة الصراع القديم والمتجدد مع عدو يغتصب حقوق شعب ويحتل أراضيَ وينتهك الحريات، يخرج من قيح الانتظار الذي ينمو في أطراف بعض الشخوص الباحثة عن دور من يعتقد بأن الارتماء في أحضان هذا العدو مهما كان الثمن لهو سلم هابط يعتقد بأنه صاعد نحو العدم والذي يمنحه اعترافاً بموقع ما من الإعراب أو يحميه من وصمه بالتفاهة والخفة.

أن تسعى دولة عربية تُملي عليها حسابات قياداتها المستبدة المعقدة إلى أن تطبّع مع عدو إقليمي راسخ في انتهاك سيادتها وسيادة سواها، مهما هَزُلَ موقفها، ودون الأخذ بعين الاعتبار أي رأي لرعاياها المسحوقين، فمن الممكن أن يجد هذا السعي من يبرره في المطلق، وذلك بالاستناد إلى المصالح الناجمة عن "صلحٍ" كهذا والتي يُقررها الحاكم بأمر الله في هذه الدولة وهو القابض على رقاب شعوبه منذ انقلابه الأخير على صديقه أو أخيه أو ابن عمه. وبعيداً عن الواقعية السياسية التي يحلو اليوم لبعض منظري العلاقات الدولية فرض أولويتها على حساب المبادئ والأخلاق والقيم، فحسابات الربح والخسارة في المحصلة هي من تترجم عمليا في مفاوضات الإذعان التي تقود بهذا الاتجاه. بالمقابل، فبعض الشخصيات التي لها تاريخ ماض في العمل السياسي المعارض للمستبد وللاستبداد، بعيداً عن الحكم والتحكم، والتي تجد تبريراً لا يقنع حتى السذّج بمبادراتها الوهمية انفتاحاً على العدو لمجرد أن حاكمها المستبد والذي تدّعي مواجهته، ادعى يوماً بأنه يحارب العدو نفسه، ومن خلال هذا الادعاء، فقد أفقر شعبه وقمع حرياته ومسخ هويته وباعد بين مكوناته وشتت نخبه وعذّب مفكريه ومثقفيه أو هو أجبرهم على النفي إن لم يستطع استقطاب ضعافهم، فالمسألة تصير أولاً أخلاقية.

لقد كان من دعامات نجاح المشروع الصهيوني حتى اليوم وجود أنظمة عربية مستبدة تمنع عن شعوبها أي شكل من أشكال التعبير

وحتى لا تتسارع الاتهامات بالسذاجة السياسية والتي تلفظ التقييم الأخلاقي / المبدئي لتضع مكانه تقييماً سياسياً / عملياً، فلنلعب هذه اللعبة مهما هزلت ومهما بدا للقارئ الواعي بأنها ألف باء السياسة بعيداً عن إصدار الأحكام الأخلاقية مهما حضرت.

لقد كان من دعامات نجاح المشروع الصهيوني حتى اليوم وجود أنظمة عربية مستبدة تمنع عن شعوبها أي شكل من أشكال التعبير. واستمرت الحروب المستعجلة أو الموصى عليها بالتتالي لتُثبت أمام من تخلّص من الأمية أن بقاء "الديمقراطية" الوحيدة في الشرق كما يحلو للبعض أن ينعت إسرائيل، هو رهنٌ بزوال أي وهم لتحقق ديمقراطية فعلية وراسخة في بلاد الاستبداد المحيطة وهي الحليف الموضوعي للاحتلال الاستعماري الاستيطاني ما دام الاستبداد فيها مستتباً وإرادات شعوبها مقهورة.

لقد أثبتت كل الدراسات الجادة، وآخرها، استطلاع الرأي العام العربي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بأن أغلبية الشعوب التي تسكن في النطاق الجغرافي العربي ترفض أي شكل من أشكال التطبيع ما دامت الأراضي محتلة والشعب مهجّراً والحقوق مسلوبة. وعموماً، عُرِفَ عن المعارضات السياسية في الدول المستبدة التي تسعى للحرية بأنها تسعى إلى تمثيل صوت الشعب في قضاياه الداخلية كما الخارجية. وبالتالي، فمن البديهي لهذه المعارضة، الباحثة عن تمثيل وعن شرعية، أن تحترم رغبة الشعوب.

حتى إن إسرائيلياً معارضاً لنتنياهو لم يتمكن من مسك قلمه عن التنديد بهذا التوجه المخجل. فقد كتب ايتمار رابينوفيتش، السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة الأميركية، والمتخصص المعروف بالشأن السوري، نصيحة لبعض أفراد المعارضة السورية، وهم قلة قليلة، الساعين للحوار مع حكومة نتنياهو، قائلاً: "لا تلوّثوا قضيتكم العادلة بمثل هذا العمل الغبي وغير المجدي".