هكذا سرق الغرب الديمقراطية من العرب

2020.08.04 | 00:04 دمشق

alrb.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع أنها زارت سوريا مراراً إلا أنني لم أحظ بفرصة لقاء المؤرخة إليزابيت تومسون إلا أثناء زيارة لها إلى باريس للبحث في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية. حينها كانت في مرحلة الإعداد لتحرير كتابها الصادر حديثاً تحت عنوان "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب". وقد سمح لي هذا اللقاء بالتعرف، من خلال سردها العلمي الموثّق، إلى كثير من تفاصيل تلك المرحلة من تاريخ سوريا والمنطقة عموماً. وهي الحقبة التي عرفت نهاية سيطرة العثمانيين على المنطقة وبروز أحلام التحرر وبناء الدولة الوطنية العربية التي صدّق الثائرون العرب على الباب العالي بأن الغرب يرغب فعلاً في مساعدتهم لتحقيقها.

وفي هذا اللقاء عرفت بقصة الدستور الذي طلب الأمير فيصل من الشيخ رشيد رضا أن يضع مشروعاً له، وحيث لم ترد فيه إشارة إلى الإسلام إلا كونه دين رأس الدولة، مما أثار غضب المشايخ الذين احتجوا لرضا الذي أوضح موقفه بجملة واضحة لا لبس فيها يكاد جُلُّ تلامذته يرفضون تكرارها اليوم وإن كررت أمامهم فلهم ألف أسلوب للتشكيك بمصداقيتها وبأن رضا نفسه هو الذي قالها. تكتفي هذه الجملة بالتالي: "تم تكليفي بإعداد دستور للسوريين، وهم من المسلمين والمسيحيين واليهود. فهل تريدون مني إعداد دستور للمسلمين فقط؟".

منذ أسبوعين، استضفت الكاتبة في محاضرة عبر الشبكة العنكبوتية التي صارت وسيلة المعرفة الأكثر تداولاً في مرحلة الجائحة ويبدو أنها ستستمر حتى في الفترة التي ستلي. وقد قدّمت المؤرخة الأميركية شديدة التعلّق بالشام عموماً، والتي تتقن العربية والفرنسية، خلال هذه المحاضرة الافتراضية عرضاً لأهم محاور كتابها الجديد الذي يدخل في إطار سلسلة من البحوث المعمّقة التي تتناول فيها بدايات نشوء الوعي السياسي الليبرالي في بلاد الشام. وتركّز الحوار في نقطة مفصلية دفعت بها إلى اختيار هذا العنوان التحريضي الذي يمكن أن يصطدم به أحدنا ويعتبره مبالغةً أو أن يعتبره من ضمن "نظرية المؤامرة" والميل الشرقي لتحميل الآخرين مصائبنا.

فالمرحلة التي اقتربت خلالها النخب السياسية الليبرالية نسبياً تمشياً مع ظروف المنطقة من النخب السياسية الإسلامية كانت متميّزة للغاية. فالليبراليون كانوا غير إقصائيين وكانوا متصالحين مع طبيعة تكوين مجتمعاتهم وينشدون مع ذلك الخروج من المرحلة التي كان الدين فيها مطية للمستبد والتي تعاون خلالها رجل السلطة مع رجل الدين في سبيل اخضاع الشعب وثرواته لرغبات المستبد. كما أن تلك المرحلة من تاريخ بلاد الشام عرفت دوراً متميّزاً لرجال دين تنويريين ونهضويين تركوا أثراً طيباً في التعريف بدور الدين في الحياة الدنيا. وقد وصل بعضهم، كعبد الرحمن الكواكبي، إلى الدفع بضرورة فصل الدين عن الدنيا، ورفع وصاية السياسة عن الدين والدين عن السياسة. أما الآخرين، كما رشيد رضا، فقد قارب الموضوع كما أوردت بطريقة مختلفة، مما أدى إلى أن ينشط جدال حام بينه وبين الكواكبي دون أن يفسد هذ الخلاف علاقة الصداقة والاحترام التي تربطهما. وفي دليل حضاري على الانفتاح الفكري، فقد نشر رضا في مجلته "المنار" كثيراً مما كتبه الكواكبي نقداً لفكره. وقد توّج رضا أداءه الراقي بأن كتب نعياً شديد الدفء بحق الكواكبي بعد استشهاده سنة 1902.

وشهدت هذه المرحلة حوارات هادئة عقدت بين إسلاميين إلى جانب ليبراليين من مختلف الأديان كان يجمعهم هدف واحد وهو بناء الدولة الوطنية الديمقراطية. فقد آمن إسلاميو تلكم المرحلة بأن الديمقراطية هي جزء من الحل، فاقتربوا إلى مسافة ضئيلة جداً مما اقتنع به ليبراليو هذه المرحلة المتأثرين بفلسفة الأنوار وبالتيار الإصلاحي في المراحل الأخيرة من حياة الرجل المريض في الآستانة. وباستعراض الصور الفوتوغرافية التي نقلت لقطات عن اجتماعات أهل بلاد الشام والتي توّجت بمؤتمر 1920، فمن الطبيعي بمكان أن نجد أنها تجمع أصحاب العمائم إلى جانب أصحاب الطرابيش إلى جانب حاسري الرؤوس ممن حملوا فكراً تقدمياً بمعايير المرحلة الزمنية التي عبروا من خلالها.

جاء الغرب بمشروع الانتدابات على المنطقة والتي أدت إلى إجهاض مشروع الدولة العربية وإلى نشوء دولة إسرائيل. وقد برر الفرنسيون والانكليز سيطرتهم على بلاد الشام بأن شعوبها بحاجة إلى المساعدة بعد قرون الاحتلال العثماني لترتقي بمستوى الوعي السياسي الذي يمكنها من إدارة شؤونها بنفسها. فابتعد الإسلاميون نحو مزيد من الراديكالية وتراجع الليبراليون الذين كانوا يحملون مشروعاً تنويرياً كان يوصم بقربه من الغرب، لتتصدر المشهد أحزاب تبنت الخطاب الوطني التحرري والتقدمي، والتي سرعان ما وصل بعضها إلى الحكم بعد استقلال البلاد وأمعنوا فساداً واستبداداً في البلاد وفي العباد.

هل التاريخ يكرر نفسه؟ لا إيمان لي كبير بهذه العبارة ولكنني أفضل القول بأن الإنسان في أدائه يمكن أن يُعيد انتاج التاريخ. وبالتالي، فقد شهدت فترة ماضية قريبة سبقت الربيع العربي، منصات حوارية جمعت في جنباتها إسلاميين وليبراليين متنوعين، سرعان ما أجهضت بسبب رغبة خارجية في إيصالها الى طريق مسدود وتضعضع المسؤولية المحلية في انجاحها وتراجع أطرافها عن التوافق حينما بدا أن الحكم قد اقترب من المنال. وما دعم الغرب أو جزء من الغرب الحالي للثورات المضادة ولعودة الديكتاتوريات في مصر وفي ليبيا وسواها، إلا إعادة إنتاج لعقلية الانتداب الثقافوية التي اعتبرت حينها بأن شعوب المنطقة غير مؤهلة للحكم الديمقراطي.