هزيمة بوتين.. بقعة ضوء في نهاية النفق السوري

2022.11.15 | 06:13 دمشق

بوتين
+A
حجم الخط
-A

رغم الهزيمة الموصوفة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، والمتمثلة في استعادة الجيش الأوكراني للكثير من مدنه وبلداته وأهمها منطقة "خيرسون" التي استردها في الأيام القليلة السابقة ورفع عليها علم أوكرانيا من جديد، إلا أن الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين ما زالوا لا يتجرؤون على التورط في وصف الانسحاب الروسي من تلك المدينة بالهزيمة خوفاً من سقوط توصيفاتهم في فخ السذاجة السياسية، فلربما يكون ذلك الانسحاب مجرد تكتيك عسكري سيمكّن بوتين من القيام بعمل أكبر ضد المدينة ويحول هزيمته إلى نصر ساحق، ثمة بالتأكيد ما يخطط له لاستعادة زمام المبادرة، وربما لإيقاع هزيمة كبرى ونهائية ومؤلمة تجعل الأوكرانيين يندمون على تجرئهم في استعادة المدينة، وربما يكون انسحابه من تلك المدينة جزءاً من خطة مرتقبة تعيد قلب الموازين من جديد، وبالتالي لا مصلحة للمحللين السياسيين بالتسرع في الاستنتاجات التي قد تضرب سمعتهم وقدراتهم التحليلية إن حدث ذلك السيناريو.

وبحساب الفارق النوعي في القوة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، فإن بوتين لا يمكن أن يهزم  بهذه البساطة، يبدو ذلك منطقياً، فلا يمكن لقوة عظمى أن تسمح لدولة مثل أوكرانيا أن تلطخ سمعتها بالهزيمة، ولكن بالرجوع إلى شخصية بوتين وتاريخ حروبه منذ استلامه زمام الأمور في روسيا وحتى الآن ستبدو الهزيمة واقعاً غير قابل للتأويلات الكثيرة.

بدءاً من الشيشان وجورجيا، مروراً بالقرم وسوريا، لم يخضْ بوتين حرباً حقيقية، بل اعتداءات واحتلالات وإبادة، لم يقف بوتين وجهاً لوجه مع قوة عسكرية مكافئة أو شبه مكافئة، أو حتى مع دولة ذات جيش قادر على الدفاع عن بلده في الحدود الدنيا، فقد خاض بوتين حروبه ضد دول شديدة الضعف وليس لديها القدرة على الرد عليه كما حصل في الشيشان، أو ضد شعب أعزل أو ثورة مسلحة بأسلحة غير نوعية كما حصل في سوريا، وكانت استراتيجيته الوحيدة هي الاعتماد على سياسة الأرض المحروقة ضد قوى لا تمتلك مضادات طيران، وقام بضم القرم في غفلة عن المجتمع الدولي أو بتواطئ منه، ليخرج في كل مرة معلناً انتصار المخرز على العين ولتزداد عنجهيته وغروره اعتماداً على انتصارات لا مواجهة فيها مع طرف آخر، بل هي مجرد حروب غدر وإجرام وإبادة.

المرة الأولى التي يدخل فيها بوتين حرباً مع دولة تمتلك الحدود الدنيا من مؤهلات الدفاع عن نفسها كانت في أوكرانيا، قاد بوتين حملته العسكرية على أوكرانيا وفق المنطق ذاته الذي اتبعه في غزواته القديمة، وفق منطق النتائج المحسومة سلفاً بحكم الفارق النوعي في القوة، غزا بوتين أوكرانيا وهو يعتقد أنه يقوم بنزهة في الجبهة، ولذلك رفض أن يسميها حرباً بل عملية عسكرية، وهذا يعني أن القصة ستحتاج إلى ساعات أو أيام، أو أسابيع على أقصى تقدير، ولكن تلك العملية أنهت شهرها التاسع ليتضح أن حمل بوتين كان كاذباً، وأن الولادة لن تتم حتى بعملية قيصرية يقوم بها قيصر عسكري أعجزه أول امتحان وأحاله إلى التقاعد، ويكفي دليلاً على خسارة بوتين أن يطول مدى تلك العملية العسكرية المحدودة كل ذلك الزمن دون مؤشرات على أنه يقترب من تحقيق أهدافه، بل إن فشل العملية وعجزها عن تحقيق أهدافها بات هو الحقيقة المسيطرة، فضلاً عن الخسائر البشرية والعسكرية والاستراتيجية التي تكبدها صاحب العملية..

بقليل من الدعم الغربي، استطاعت أوكرانيا هزيمة القوة العظمى، الأمر الذي يكشف عن هشاشة الفكر الروسي الاستراتيجي، وتخلف منظومة الأسلحة التقليدية الروسية، وقد فضح بوتين نفسه بنفسه حينما دان الدعم الغربي لأوكرانيا فأكد من حيث لا يدري أنه يبحث دائماً عن خصم ضعيف ويفضل الخصم الأعزل ليقوم الوحش بالتهامه ثم ينتشي بانتصاراته وقوته التي لا تقاوم..

يخشى المحللون السياسيون والعسكريون أن يغير بوتين قواعد اللعبة ويستعمل السلاح النووي، ولربما يكون خروجه من "خيرسون" تمهيداً لضربها بذلك السلاح، ولذلك فمن المبكر أن يتجرأ المحلل السياسي على الحديث عن نصر أوكراني، ولكن اختيار بوتين دائماً لخصوم ضعفاء هو دلالة واضحة على جبنه وبالتالي فهو لن يتجرأ على استخدام النووي لأنه سيجبر القوى العظمى على الرد عليه وسيكون ذلك انتحاراً، وبوتين شخصية لا تنتحر، فالقادة الذين انتحروا فعلوا ذلك نتيجة هزيمة مشروعهم، بصرف النظر عن نبل أهدافهم أو دناءتها، أما الساعون للمجد الشخصي فهم يتمسكون بالحياة إلى آخر رمق حتى لو تعرضوا للذل والمهانة، وبوتين يفضل أن يبقى حياً مهما كان مهاناً ومهزوماً.

وبالاعتماد على طبيعة الحروب التي خاضها بوتين، لن يكون ثمة سبب للتريث في قراءة ما حصل في "خيرسون" على أنه هزيمة وليس مجرد انسحاب تكتيكي وفق خطة عسكرية ممنهجة تتضمن أهدافاً استراتيجية كبرى..

لقد انهزم بوتين عسكرياً، بات ذلك واقعاً لا يمكن التشكيك فيه، بل إن كل المؤشرات تدل على تتابع الهزيمة وتكريس خسارة روسيا في المستقبل القريب، كما أنه انهزم سياسياً، حيث تم عزله وحصر علاقاته في الدول القمعية مثل الصين وكوريا الشمالية وإيران والنظام السوري وغيرهم.

والخسارة الأكبر التي تعرض لها بوتين تتمثل في الخسارة الاقتصادية، حيث تنبهت أوروبا إلى خطورة التعامل معه في مجال الطاقة وراحت تبحث عن مصادر بديلة تفقد بوتين مصادر دخله الأعلى والأهم الناتجة عن عقود الغاز مع أوروبا.

لقد استطاعت روسيا أن تستعيد عافيتها لأول مرة بعد البيروسترويكا، وبدأت تقف على قدميها من جديد، ولكن عنجهية بوتين وبلطجته وغروره وغباءه أيضاً، كل ذلك جعله يقع في الفخ الأميركي من جديد والذي يستخدم انتفاخ القيصر الروسي كوسيلة تفجير تعيد روسيا ثانية إلى التفكك والاهتراء..

ربما تكون هزيمة بوتين في أوكرانيا بارقة الأمل في تغيير جذري في المشهد السياسي الدولي والذي قد ينعكس إيجاباً على القضية السورية حينما يخسر الأسد أقوى داعميه، ربما تكون هزيمة بوتين هي بقعة الضوء التي تلوح في نهاية النفق السوري الذي كنا نعتقد ألا نهاية له..