هذا الشرق العتيد.. في تهافت السياسة

2021.11.16 | 05:56 دمشق

16369095951564773747.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل عدة أشهر أجرى صحفي أميركي يعمل في "النيويورك تايمز" حواراً مطولاً مع "سيف الإسلام القذافي"، نجل الرئيس الليبي المخلوع، وفي نهاية الحوار يوجز الكاتب خلاصة حواره مع سيف الإسلام القذافي فيقول: (سألتُه عن رأيه في ثورات الربيع العربي، فقال دون لحظة تردد واحدة، "العرب الحمقى دمروا بلدانهم").

ومنذ عدة أيام أعلن "سيف الإسلام" - الذي دُمرت ليبيا بفضله وفضل والده -  ترشحه لرئاسة ليبيا، رغم أنه مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، وهو من توعد الليبيين عندما ثاروا على حكم والده بالويل والثبور، وقال حينها في حديث له لصحيفة الشرق الأوسط: (حين كانت الأمور بخير كنت معارضاً وإصلاحياً، ولكن عندما يدوس الناس الخطوط الحمراء؛ فأنا أضربهم بالجزمة وأضرب أبوهم كمان بالجزمة).

 لا يمكنك أن تقرأ في التاريخ المعاصر للبشرية، فانتازيا كهذه، إلا في بلدان هذا المشرق العتيد!

وأن تنشب أزمة سياسية تصل حد قطع العلاقات الديبلوماسية بين عدة دول، أمرٌ مألوف في السياسة الدولية، لكن أن يكون سببها المباشر تصريحاً لشخص لا أهمية سياسية أو فكرية أو ثقافية له، وأن فتوحاته العظيمة، وتاريخه كلّه، يمكن تلخيصه ببرامج مسابقات سابقاً، وبكونه حالياً مجرد صدى لجهة ما. وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة، وبغض النظر عن ماوراء الأكمة كما يقال، ألم يجد الساسة والقادة في بلداننا المنكوبة بهم أساساً، إخراجاً أفضل لمسرحية العبث هذه، أليست أيضا فانتازيا خارقة، لكن لا يمكن أن تراها إلا في هذا المشرق العتيد؟!

وأن يزور وزير الخارجية الإماراتي الشيخ "عبد الله بن زايد آل نهيان" سوريا، وأن يلتقي بمن دمّر سوريا، وقتل مليونا من أبنائها، وهجّر نصف شعبها، وهو نفسه من ألقى خطبة عصماء في الأمم المتحدة يوماً ما، تحدّث فيها عن إجرام النظام السوري، وكيف يستهزىء بالجميع ويواصل إجرامه بحق الشعب السوري! ثم يعقب هذه الزيارة سيل من احتفالات وتحليلات عن انتصار إلهي جديد، وعن تغيير معادلات، وانقلاب موازين، هي أيضاً فانتازيا لايمكن أن تراها إلا في هذا المشرق العتيد!

أن يصرح "حسن نصر الله"، الأمين العام لحزب الله، أن زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى سوريا (هو اعتراف بانتصار سوريا)، وهو صاحب تاريخ طويل من "الانتصارات الإلهية " التي لم تفعل شيئاً، سوى إيصال لبنان إلى حضيض ينذر بكارثة قد تودي بلبنان، هي أيضاً فانتازيا لايمكنك أن تراها إلا في بلدان هذا المشرق العتيد!

أي سياسة هذه، وأي ساسة، عندما تنهب هذه البلاد، وعندما تحتلها الجيوش الخارجية، وعندما تفقّر شعوبها، وتجوّع، ويحلم كل من يعيش فيها بالهجرة منها

وأن يصرح الملك عبد الله بضرورة عودة سوريا إلى "الحضن العربي"، لكأن الحضن العربي هو أرض الخلاص، ولكأن هذه البلاد الممتدة من "الأطلسي" إلى "بحر العرب وخليج عمان" تستطيع أن تفعل شيئاً، إلا أن يتكدّس مواطنوها الهاربون منها على حدود الدول الأخرى، طلباً لقليل من الأمن والخبز، هل يحتمل عقل أن يكون بين اللاجئين المحاصرين بالبرد والجوع على الحدود البولونية البيلاروسية، مواطنون من العراق الذي لم يعد في حالة حرب، والمصنّف بين الدول الأغنى نفطياً في العالم، أليست فانتازيا تفوق الخيال، لكنك أيضاً لن تستطيع أن تراها إلا في بلدان هذا المشرق العتيد!

وأن تتصارع الدول، وأن تخوض حروبا عسكرية واقتصادية وسياسية، هو أمر دائم في عالمنا البشع، لكن أن يصبح الهاربون من الموت والجوع والقمع أحد أدوات هذه الحرب، وأن تصبح مصائرهم وحياتهم مجرد أوراق ضغط يمارسها طرف ما على طرف آخر، هو فانتازيا لا يمكنك أن تراها إلا إذا كان هؤلاء اللاجئين من بلدان هذا المشرق العتيد!

أي سياسة هذه، وأي ساسة، عندما تنهب هذه البلاد، وعندما تحتلها الجيوش الخارجية، وعندما تفقّر شعوبها، وتجوّع، ويحلم كل من يعيش فيها بالهجرة منها، وعندما تتباهى شركات الأسلحة بأنّها جربت فعالية ما تنتجه من أسلحة بلحم شعوبها، وبعد كل هذا تصبح أعظم انتصارات سياسييها مجرد زيارة، وعندما لايقبل طغاتها بأقل من 95% للفوز بانتخابات مهزلتهم، وأي ..وأي؟؟!!!

الفاجعة الكبرى في هذا المشهد السوريالي الغريب، هو أن أعظم ما يمكن لسياسيي هذه البلاد فعله، هو أن يكونوا أكثر قبولاً لدى الأطراف الخارجية، وأن تكون انتصاراتهم الكبرى هي تنفيذ ما تطلبه هذه الأطراف، وليس ما تطلبه شعوب هذه البلاد، ومتطلبات تطورها.

إذا كانت السياسة في أبسط تعريفاتها، هي إدارة كل شؤون الدولة الداخلية، والخارجية، وتوزيع النفوذ والقوة ضمن حدود مجتمع ما، ودراسة وفهم الواقع السياسي وتغييره موضوعياً، فأين يمكننا أن نتلمس الفعل السياسي في هذه البلدان؟

يصح عند توصيف السياسة في بلداننا القول عنها بأنها إدارة التبعية والنهب، مع ما يتطلبه هذا من قمع لأي نفوذ أو قوة داخل هذة البلدان تتعارض مع هذه التبعية، ليس هذا فحسب بل وبما تتطلبه استدامة التبعية من سحق لممكنات التغيير والانتقال إلى الدولة الحقيقية ذات السيادة، وتقويض عوامل قوة ونهوض هذه المجتمعات، وتفويت فرص امتلاك هذه المجتمعات لقرارها.

من أهم دلالات تهافت السياسة في مجتمعاتنا، ليس ضمن الشريحة الحاكمة وحسب، بل وداخل بنيات المجتمع الأخرى، ولاسيما في فئات المثقفين والمفكرين والساسة هو الانشغال كأفراد وجماعات وقوى بما هو هامشي في السياسة، أو هو منفعل، والابتعاد عن محدداتها الأساسية، ومجالاتها المؤسِّسة، وعمّا هو فاعل فيها.

ليست السياسة لدينا سياسة، ولا الحقوق حقوق، ولا البرلمانات برلمانات، ولا الحكومات حكومات، ولا الدول دول، ولا الأحزاب أحزاب، ولا ..ولا... فهل يحق لنا والحال هكذا أن نستغرب شيئاً.

صحيح أن السياسة الحالية التي تقود العالم اليوم محكومة بالتهافت، والابتذال، لكنها في مشرقنا العتيد تفوقت كثيراً على الآخرين في ابتذالها وتهافتها.