هتشكوك في مقبرة المخيم

2019.04.09 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يمر خبر استشهاد الشاب الفلسطيني محمد عمايري "أبو ثائر" تحت التعذيب في معتقلات نظام الأسد دون ضجة إعلامية تماماً كما حصل مع عشرات الآلاف سابقًا ويبدو أنه سيتكرر بذات المنطق لآلاف المعتقلين والمفقودين الذين تغص بهم زنازين الوطن في سوريا إرضاءً لشهية الإجرام لدى من يتحكم في البلاد منذ ما يزيد على الأربعة العقود من الزمن، وضمن لحظة احترافية يتحولون جميعًا إلى مجرد أرقام على شاشات وصحف المؤسسات الإعلامية العربية ليس أكثر.

لن يحظى المغدور على عتبات سفاح الأنظمة القومية بجنازة تليق بأحلامه البكر عن الوطن والكرامة الإنسانية ولن يتسنّ للرفاق حمله على الأكتاف لتختلط الدموع بالهتافات داخل أزقة وأحياء اليرموك، وستتبرأ منه كل الأحزاب والفصائل الفلسطينية رغم أنه أحد كوادر كبرياتها في سوريا، فالقتيل خرج عن الإجماع الوطني للفلسفة السياسية المستحدثة للحركة الوطنية الفلسطينية وشن عمليته الفدائية الأولى والأخيرة بما يضر بمصالح "الكهنوت" الفلسطيني المطبق على الضمائر والوجدان.

هو تقديم عاطفي مبالغ فيه لحدث اعتيادي وقد يسهم في زيادة مساحة الابتذال وإعادة إنتاج شعارات معلبة تصيب المتابع أو المتلقي بالغثيان، لكن ليس ذنب المحرر الصحافي هنا أن يتزامن الإعلان عن مقتل "أبو ثائر" مع "الصفقة المفاجئة" لإعادة جثة جندي إسرائيلي مفقود منذ عقود إلى أرض "الوطن" بالتنسيق بين الممانعة في دمشق وحليفتها موسكو، بينما تمنح الأولى الوجدان الجمعي لعائلة تصغر أو تكبر ذبحة جديدة عقابًا على انتمائها الوطني وفشلها في تلقين الولد العاق تعاليم المهانة والتسبيح بحمد الإله الحاكم.

للأسف لم يكن لوفاة اللاجئ الفلسطيني ذاك الأثر والتأثير في سياق الأحداث السياسية كما امتلكتها جثة متعفنة للأخر العدو تزامن مصادفة حضورهما على خارطة الواقع لينفجر الإعلام رصدًا وتحليلًا لكيفية اكتمال خطوات الصفقة التي تبنتها موسكو

للأسف لم يكن لوفاة اللاجئ الفلسطيني ذاك الأثر والتأثير في سياق الأحداث السياسية كما امتلكتها جثة متعفنة للأخر العدو تزامن مصادفة حضورهما على خارطة الواقع لينفجر الإعلام رصدًا وتحليلًا لكيفية اكتمال خطوات الصفقة التي تبنتها موسكو، ومع أن خلفيات الحدث واضحة وتعبر بوقاحة عن محاولات حثيثة لإعادة تعويم النظام السوري كمصلحة روسية في المقام الأول تدفق سيل الأسئلة (من وكيف ومتى وأين ولماذا) خاصةً وأن جذور القصة تعود إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، فبدا وكأن هتشكوك كان يمسك بمقود صناعة الأحداث على شاشات وصفحات جزء من الإعلام العربي.

أحد السيناريوهات الواردة على مواقع إعلامية معروفة بمناصرتها لنظام "الممانعة" في سوريا تحدث عن صفقة بين من وصفها بالجماعات الإرهابية في مخيم اليرموك و"الدولة العبرية" لتسليم جثة الجندي الإسرائيلي، مضيفًا أن تلك المجموعات دأبت منذ العام 2012 على البحث عن جثث الإسرائيليين المفقودين إبان معركة السلطان يعقوب عام 1982 واستطاعت الوصول لإحداها ومن ثم إخراجها إلى تركيا وفق عملية تتجاوز كل إمكانات خيال هوليوود السينمائي عند إنتاجها لسلسلة مهمة مستحيلة الشهيرة للممثل توم كروز.

طبعًا تجاهل هؤلاء في بنائهم الدرامي أن مخيم اليرموك خضع منذ العام 2015 لسيطرة "داعش" الذي خرج -بناء على اتفاق رعته موسكو في أيار من العام الماضي- باتجاه البادية السورية، وهو ما يعني عطفًا على السيناريو السابق أن الجثة خرجت في الحافلات المخصصة من النظام السوري لنقل مقاتلي التنظيم الإرهابي أو سُلمت قبل الخروج، في حين تأتي مواقع أخرى بسيناريو أكثر هتشكوكية يتحدث استنادًا إلى مصادر خاصة عن فرق كوماندوس إسرائيلي اقتحمت مكان الدفن المفترض (مخيم اليرموك) وسحبت الجثة بدعم لوجستي من موسكو.

 ثم ببساطة يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الوصول إلى الجثة حصل بالتنسيق مع شركائه السوريين على حد تعبيره قبل أن تبث معظم محطات وسائل الإعلام صورًا حية لرئيس "الحكومة الإسرائيلية" بنيامين نتنياهو يعود مع الرفات إلى "إسرائيل" من العاصمة الروسية، ويضيف الإعلام الإسرائيلي تفاصيل تؤكد بأن المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها "تل أبيب" على مدار عقود عن مكان دفن الجثث سُلمت للجيش الروسي الذي تكفل بالباقي، مشيرًا إلى أن رفات الجنود الإسرائيليين كانت تحت سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية بعد معركة السلطان يعقوب مباشرة.

ثمة قصة أقل درامية يمكن إضافتها إلى كل ما سبق مفادها أنه بين عامي 2007/2008 كلفت قيادة منظمة التحرير أحد الضباط الفلسطينيين في مخيم اليرموك بتزويدها بمعلومات عن قبور الجنود الإسرائيليين قبل أن يقع الأخير في قبضة النظام السوري بناء على تقارير أمنية، لتعود قوات الاسد مسلحة بما جمعه ذاك الضابط من معلومات وتحاصر مقبرة الشهداء في المخيم ليلًا وتبدأ عملية بحث استمرت لساعات دون تأكيدات إن استطاعت الخروج بالجثث الثلاث أو بعضها آنذاك أم لا، ورغم عدم وجود مستند رسمي يدعمها تبقى هذه الرواية تستحق المرور لا سيما في ظل استمرار الصمت غير المفهوم من منظمة التحرير الفلسطينية وهو ما يزيد الشكوك بأنها لم تكن بعيدة عن الصفقة.

لتعود قوات الاسد مسلحة بما جمعه ذاك الضابط من معلومات وتحاصر مقبرة الشهداء في المخيم ليلًا وتبدأ عملية بحث استمرت لساعات دون تأكيدات إن استطاعت الخروج بالجثث الثلاث أو بعضها آنذاك أم لا، ورغم عدم وجود مستند رسمي يدعمها تبقى هذه الرواية تستحق المرور

من مقبرة في مخيم إلى مسرح الحياة تتقاطع المستحيلات ضمن مشاهد غاية في العبيثة فتلتقي الأضداد جثتان إحداهما للاجئ فلسطيني والأخرى لعنوان النكبة والمأساة فصلت بينهما 72 ساعة فقط وبضع تفاصيل "صغيرة" كانت كافية لتشييع أمة بكاملها إلى مقبرة التاريخ، وبانتظار أن يصل مركب الأحلام إلى مرفأ التغيير المنشود يتكاثف الرمز على أطلال المخيم وهو يستعيد مكانته الواقعية بوصفه ساترًا يحمي ضمير المسحوقين من الانهيارات القيمية للعروبة إذ توغل ما استطاعت في ممارسة طقوس دعارتها الوطنية لتنفجر مع دماء نشوتها ندوب الذكريات في عرش الحقيقة وأحد فصولها سابقًا أن الفدائيين الفلسطينيين (اللاجئون) اختاروا بعد نفاذ ذخيرتهم الاستسلام للعدو الإسرائيلي خلفهم بدل تسليم أنفسهم "للأشقاء" القادمين على ظهر الدبابات وهدير الطائرات الحربية.

على الهامش ربما يعيد نبأ استشهاد عمايري في خلفية الحدث "الكبير" لعودة رفات القتيل الإسرائيلي سالمةً بعد أن أضحى اليرموك جثة بحجم وطن استدعاء شريط أحداث طويل يغص بصور الكثيرين من أبناء المخيم نصفهم شهداء أو معتقلون ونصفهم الأخر على حدود المنافي الجديدة غارقين في نزع طعنات الخذلان من ثنايا الروح وأرصفة الذاكرة ويحاولون التخلص من كل المعاني التي أطّرتهم على مدى أكثر من سبعين عام كحراس أوفياء للوهم في متاهة الانتماء إلى فخ المؤقت وحقيقة المشاريع التي تريد أن تجعل من الأخير هويتهم الوحيدة، ومدركين بأنهم كانوا ومازالوا -أحياء وأموات- مجرد ضرورة مصلحية للجاثمين عنوةً على صدر الحلم الفلسطيني فتحضر مجددًا عبارة رددتها ناشطة فلسطينية من مخيم اليرموك قبيل المذبحة وقبل "الصفقة" الأخيرة بنحو عقد من الزمن  "لو أرادوا أعدنا تفكيك هذه الخيم الاسمنتية واستدرنا عائدين".

كلمات مفتاحية