نوعان من الشيعة ينقدان التراث الشيعي

2020.02.28 | 00:55 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

يمكن أن نميّز في نقد التراث الديني الشيعي نوعين من التعاطي والمعالجة:

النوع الأول: نقدٌ يعتمد أدوات التراث الديني الإسلامي عموماً والشيعي خصوصاً، ويستشهد برموزه وشخصياته، للعودة بالمذهب إلى صفائه ونقائه، وتطهيره مما لحقه من إضافات عبر الزمن، وتخليصه من المطاعن التي تنهال عليه، وسحب الحجج والذرائع التي توفّرها هذه الإضافات لتلك المطاعن.

النوع الثاني: نقدٌ يتكئ على خلاصات نتائج العلوم الإنسانية، ولا سيما علم التأويلية/ الهرمنيوطيقا، لتقريب الدين من مقولات العصر والحداثة الأوروبية، التي شكّلت عالمنا الحديث والمعاصر في كل صعده ومجالاته، ويستشهد ببعض فلاسفة الإسلام ومتصوفيه، ويكثر من الاستشهاد بفلاسفة عصر الأنوار الأوروبي ومفكريه من أبناء القرن الثامن عشر وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين.

نوعان أو نسقان متمايزان يختلفان بطريقة المعالجة وأدواتها، ويختلفان في الغاية منها، على الرغم من أنهما قد يتداخلان باعتبار وحدة موضوعهما، وللتفريق بينهما نطلق على النوع الأول اسم (الإصلاح الشيعي)، وعلى الثاني اسم (التنوير الشيعي).

في قائمة المصلحين الشيعة نقرأ، على سبيل المثال، الأسماء التالية: آية الله هادي نجم آبادي (1835 ــ 1902)، وآية الله محمد مهدي الخالصي (1888 ــ 1963)، وآية الله شريعت سنكلجي (1892 ــ 1944)، وعبد الوهاب فريد تنكابني (1907 ـ 1982)، وآية الله أبو الفضل البرقعي (1908 ــ 1992)، وعلي أكبر حكمي زاده (ت: 1987)، وحيدر علي قلمداران (1913 ــ 1989)، وآية الله نعمت صالحي نجف آبادي (1925 ــ 2006)، وإسماعيل آل إسحاق الخوئيني (1937 ــ 2000)، وأحمد الكاتب (1952 ــ .....)، وحجة الإسلام محسن كديوار (1959 ــ .....)، وفي قائمة التنويريين نقرأ أسماء: محمد مجتهد شبستري (1936 ــ .....)، وعبد الكريم سروش (1945 ــ .....)، ومصطفى ملكيان (1956 ــ ......).

تتفق كتب الإصلاحيين وطروحاتهم جميعاً على تطهير المذهب الشيعي من الخرافات والإضافات التي لحقته عبر العصور، وسوف نقع فيها على مناقشات إضافية وردوداً حول أفكار عديدة منها:

1 ــ نقد التراث الروائي الشيعي، أي الأحاديث المروية عن النبي والأئمة، وإثبات ركاكة كثير من المرويات، وإثبات تعارضها مع القرآن الكريم أو بدهيّات العقل.

2 ــ الرد على فكرة أنّ للأئمة (ولاية تكوينية). أي: أنّ لهم ولاية تصرّف في الكون ومجراته وأفلاكه.

3 ــ التدرّج في نفي وجود الإمام الثاني عشر، من القول بأنّ خروجه سيأخذ طابعاً نهضوياً واجتماعياً، وليس طابعاً قتالياً انتقامياً، إلى إثبات أنّ فكرة خروج المهدي هي فكرة خرافية، ولذلك قام الإصلاح الشيعي أيضاً بنفي فكرة حياة الخضر والمسيح أيضاً اتساقاً مع نفيه فكرة حياة المهدي.

4 ـ دحض عقيدة الرجعة القائلة بأنّ الله سيعيد عند قيام الإمام المهدي المنتظر آل البيت وأعداءهم إلى الحياة، فيعز آل البيت، ويذلّ أعداءهم، ثم يصيرون إلى الموت، ومن بعده إلى النشور.

5 ــ نفي ما يُنسب إلى الإمامين الباقر والصادق من إفتائهما بخلاف الصواب تقيّةً.

6 ــ نفي وجوب أداء الخمس من أرباح المكاسب، وأنّه لا أساس له في القرآن، وأنّه لم يعمل به النبي الكريم ولا الإمام علي.

7 ــ انتقاد المدّاحين الأميين، وقرّاء المراثي الجهلاء في مآتم الأئمة.

8 ــ إثبات أنّ الإمام الحسين لم يكن يعلم الغيب، ولم يكن يعرف أنّه سيُقتل في كربلاء، وهذا يُعدّ انقلاباً نوعياً يتعارض كلياً مع ما يتم تناوله منذ قرون من اعتقاد أنّ الأئمة يعلمون الغيب، هذا الاعتقاد الذي يُعدّ من ضروريات المذهب.

9 ــ إثبات أنّ الشيعة الأوائل كانوا ينظرون إلى الأئمة كما ينظر أهل السنة لأئمة مذاهبهم الفقهية، فهم علماء أبرار، لا يتميّزون عن سواهم إلا بعلمهم، وأنّ الصبغة التقديسيّة الفوق إنسانية التي أُضفيت عليهم تطوّرت شيئاً فشيئاً عبر القرون مقصيةً النظرة الأساسية الأصلية.

10 ــ الكشف عن الأخطاء العلمية التي وقع فيها علماء الشيعة التراثيين، كالخطأ الذي وقع فيه العلامة المفسّر الطبرسي صاحب تفسير (مجمع البيان) حيث نسب عدداً كبيراً من أقوال أبي جعفر الطبري صاحب التفسير السني المشهور إلى الإمام أبي جعفر محمد الباقر.

11 ــ نقد ولاية الفقيه المطلقة التي يقوم عليها اليوم أساس الحكم في إيران، وتبيين تهافت أدلتها وضعف مستنداتها.

أما كتب التنويريين الشيعة وطروحاتهم فتتفق على إبراز عقلانية الدين، وقبول الدين للعلمانية، والتنظير لتعددية الآراء الدينية، وإعادة قراءة الكتاب والسنة على ضوء الهرمنيوطيقا/ التأويلية، للتوفيق بين الإسلام ومعطيات الحداثة الأوربية المتمثلة بـ (الفردانية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعلمنة، والحرية، إلخ). ونلحظ ذلك من خلال عناوين كتبهم: نقرأ لعبد الكريم شروس على سبيل المثال: (الصراطات المستقيمة)، و(العقل والحرية)، و(التراث والعلمانية)، و(الدين العلماني)، ونقرأ لمحمد مجتهد شبستري: (نقد الفهم الرسمي للدين)، و(قراءة بشرية للدين)، و(الإيمان والحرية)، و(الهرمنيوطيقا: الكتاب والسنة)، و(مدخل إلى علم الكلام الجديد)، ونقرأ لمصطفى ملكيان: (مطارحات في عقلانية الدين والسياسة)، و(الفكر الديني وتحديات الحداثة) بالاشتراك مع آخرين، و(العقلانية والمعنوية: مقاربات في فلسفة الدين). ولدى قراءتنا تراث هؤلاء الكتّاب والمفكرين من الإصلاحيين والتنويريين سنقع على نقاط الاتفاق والافتراق بينهما.

وأولى نقاط الافتراق الموقف من التصوف، فـ (الإصلاح الشيعي) يجافي التصوف، ويحاذر ويحذِّر منه، ولأنّ المصلحين الشيعة يلحظون الصلة ما بين التصوف والتشيّع فهم يخوضون حربهم الإصلاحية على جبهتين: جبهة التصوف وجبهة التشيع، فالتصوف ذروة اللاعقلانية في الإسلام، وبؤرة الخرافة، ومصدر تقديس الأشخاص إلى درجة إشراكهم بالعبادة مع الله من خلال الطواف بأضرحة الأئمة والأولياء، والتوجه إليهم بالاستغاثة والدعاء، وهو في هذه المظاهر شقيق الروح بالنسبة إلى التشيع، ومن هنا ما كان ليستقيم، مثلاً، للمصلح الشيعي أن ينكر بناء القباب فوق قبور الأئمة، ثم يتغاضى عن بنائها فوق قبور الأولياء!

وفي المقابل فإنّ (التنوير) يرى في التصوف ملاذاً من عسف الانغلاق والتعصب وجمود القول الواحد والرأي الواحد والطريق الواحد، ويتلمّس فيه موئلاً لترطيب جفاف العقلانية وتزييتها بالروحانية والمعنى. فالصوفية هي وحدها التي تقرّر بأن الطريق إلى الله متعدّد بعدد أنفاس الخلائق، والصوفية هي التي تقدّم لنا مسوغات تعدد المعنى والحقيقة. يقول الشيخ الأكبر في (فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية): شارحاً قوله تعالى: {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} "لتقلّبه في أنواع الصور والصفات، ولم يقل لمن كان له عقل، فإنّ العقل قيدٌ فيحصر الأمر في نعت واحد، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر".

وسنرى ههنا أن الاتجاه الإصلاحي سينكر أطروحة (التعددية الدينية)، وسيخوض بعض رموز هذا الاتجاه مناظرات معها، وسيقدمون ردوداً على أطروحة عبد الكريم سروس المعنونة بـ (الصراطات المستقيمة)، كما فعل سيد مصطفى الحسيني الطباطبائي، والشيخ محسن كديوار، وستعيدنا

مردَّ الاختلاف بين الإصلاحيين والتنويريين يعود إلى طبيعة التكوين المعرفي المغاير بينهما، فالإصلاحيون في الأعم الغالب من ذوي التكوين الحوزوي التراثي الكلاسيكي، أما التنويريون فكانوا أكثر اطلاعاً على الفلسفة الغربية

هذه الردود إلى الحادثة التالية، فحين زار الشاعر والفيلسوف الهندي طاغور إيران سنة 1932، تَقرّر أن تعقد في طهران مناظرة أدبية بينه وبين المصلح شريعت سنكلجي، وكان موضوع الحوار يتعلق بادعاء طاغور بأنّ الأديان كلها متساوية، وأنّ كل إنسان يكفيه أن يتّبع الدين الذي نشأ عليه في بيئته حتى ينال السعادة المنشودة، في حين أصرَّ سنكلجي على وجوب أن يبحث الإنسان عن الدين الحق، لأنّ الحق واحد لا يتعدد.

ولعل مردَّ الاختلاف بين الإصلاحيين والتنويريين يعود إلى طبيعة التكوين المعرفي المغاير بينهما، فالإصلاحيون في الأعم الغالب من ذوي التكوين الحوزوي التراثي الكلاسيكي، أما التنويريون فكانوا أكثر اطلاعاً على الفلسفة الغربية، وأكثر معايشة لها، ويجيدون لغةً أو أكثر من اللغات الأوروبية، فسروش درس في لندن وتأثر بجون هيك، وشبستري أقام في هامبورغ واطلع على كتابات اللاهوتيين المسيحيين أمثال بول تيليش وغيره، والمهندس ملكيان حاز على ماجستير فلسفة من كلية الإلهيات في جامعة طهران ودرّس الفلسفة في عدة جامعات، ونرى في كتبه قائمة طويلة من أسماء الفلاسفة واللاهوتيين الغربيين ممن تأثر بهم واستشهد بأقوالهم.

ويتفق الإصلاحيون والتنويريون على نقد نظرية ولاية الفقيه التي يقوم عليها أساس الحكم في إيران اليوم، لكنهم يختلفون في البديل مرة أخرى، فيتكلم الإصلاحيون عن (الشورى) ويكتب آية الله نعمت الله صالحي نجف آبادي كتاباً عنوانه (ولاية الفقيه حكومة الصالحين) يرفض فيه نظرية ولاية الفقيه الحالية لأنها ذات طابع ثيوقراطي، ويطرح رؤية في الحكم تعتمد على مبدأ الشورى، في حين تنزع الرؤية التنويرية أكثر وأكثر إلى الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، وتبحث عن صيغة علمنة يتقبّلها الإسلام أو صيغة علمنة تتكيّف مع الإسلام.

...

هذه نظرات شديدة التركيز والاختصار، وربما كان لنا وقفات ومناقشات مع بعض بنودها في قادم الأيام.