نهاية انفصام الرؤية؟

2021.05.24 | 05:52 دمشق

rtxc5obq.jpg
+A
حجم الخط
-A

رغم كل شيء، عادت فلسطين إلى ساحة الحدث. وهذه "الرغم" واسعة الطيف؛ أركّز فيها على البعد الإعلامي لما جرى مؤخراً. فالإعلام خلال العقدين الماضيين تغيّر؛ فغيّر الناس، والفعل، والنتائج.

بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي، أقنعتنا الـ BBC والمؤسسات الإعلامية الغربية، بأن "ديفد الصغير"/إسرائيل/ هَزَمَنا أبدياً؛ وفي السبعينيات، أقنعتنا بأن حرب تشرين "تحريرية"، كي تثبِّت حافظ الأسد؛ وكنّا فعلياً قد خسرنا 23 قرية جديدة في الجولان. في بداية الثمانينيات، اختارت طمس جريمة قتل آلاف السوريين، وأكدت أن في إيران "ثورة إسلامية". وفي التسعينيات، سوّقت لنا "أوسلو" و "السلام العربي - الإسرائيلي". حتى في بداية الألفية، سوّقت التوريث في جمهوريتنا، وقسّمت الفلسطينيين إلى مجموعة "عبّاسية" وأخرى "حماسية".

المسألة الوحيدة التي بقي فيها الخط الإعلامي العالمي على الإيقاع ذاته هو تجاه إسرائيل، التي صوّرها /تدافع عن نفسها، هاجسها بقاؤها، والعرب معتدون/ فمَن يذكر اليهودية أو الصهيونية سلبياً، عدو للبشرية، معادٍ للسامية، وحتى إرهابي. هكذا الرواية، والسردية الإعلامية الغربية.

هناك عبارات ومصطلحات ممنوع استخدامها في التغطية الإعلامية الغربية للصراع؛ فلا يجوز أن تذكر "الأراضي المحتَلَّة" أو "قرارات مجلس الأمن"

لم يكن هذا الفعل الإعلامي اعتباطياً، أو نابعاً مِن فراغ، بل نتيجة سيطرة قوى مرتبطة عضوياً بإسرائيل مادياً وإيديولوجياً. تلك القوى ومؤسساتها وضعت قواعد "غير مكتوبة"؛ لمقاربة أي مسألة تتعلق بإسرائيل، وبالصهيونية، وبالفلسطينيين، وبالعرب، وبالصراع القائم إجمالاً؛ وعلى من يعمل في الإعلام الغربي أن يلتزم بها؛ وإلا:

  • "العرب هم من يعتدي على إسرائيل أولاً، والوصف المناسب لفعلهم هو "الإرهاب"؛ أما الإسرائيليون فهم مَن يردّ على العدوان؛ والوصف المناسب لفعلهم هو "الدفاع عن النفس".
  • عندما يقتل الفلسطينيون أو العرب إسرائيليين، فهم يقتلون "مدنيين"، وهذا "إرهاب"؛ أما إذا قتل الإسرائيليون عرباً أو فلسطينيين، فهم يقتلون "إرهابيين" /دفاعاً عن النفس/.
  • عندما يكون عدد القتلى من العرب الفلسطينيين مرتفعاً جداً، يدعو إعلام الغرب إسرائيل إلى "ضبط النفس"، والعرب إلى التوقف عن الاستفزاز. وهذا اسمه "الموقف الدولي".
  • عندما يأتي ذكر "المقاومة الفلسطينية"، يتم إرفاقها بـ ".... المدعومة من كذا وكذا وكذا"" من دون إغفال أي جهة إرهابية في العالم. أما عندما يأتي ذكر "ردة فعل إسرائيلية" فلا تكون مرفقة بـ ".... المدعومة من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.....".
  • هناك عبارات ومصطلحات ممنوع استخدامها في التغطية الإعلامية الغربية للصراع؛ فلا يجوز أن تذكر "الأراضي المحتَلَّة" أو "قرارات مجلس الأمن" أو "حق العودة" أو "خرق القانون الدولي" أو "حقوق الإنسان"... عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين.
  • ضيفك المفضل للحوار الإعلامي هو الإسرائيلي، لأنه يتكلم اللغة الأجنبية؛ أما الفلسطيني أو العربي، فلا يجيدها.

هذا نموذج من القواعد أو الإملاءات "غير المكتوبة" التي على مَن يعمل في الإعلام الغربي اتّباعها في تغطيته للصراع العربي/ الفلسطيني- الإسرائيلي؛ ولا يخرج عن هذه القواعد إلا من رحم ربي. هناك المزيد منها؛ ولكن بخصوص البند الأخير، تبيّن لي في رسالة دكتوراه أنجزتها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي في "لغة واستراتيجيات الإعلام الأميركي حول الصراع العربي-الإسرائيلي" بجامعة جورجتاون- واشنطن، أن الإسرائيليين لم يُظهروا أي تفوق أو مهارة لغوية زائدة على العرب في أثناء لقاءات تلفزيونية تناولتها الرسالة؛ ولكن البحث أظهر، وأثبت أن القائمين على ذلك الإعلام  منحازون تلقائياً، من خلال تنصيبهم أنفسهم حماة ومدافعين ومرافعين عن إجرام إسرائيل، وأعداء عتاة تجاه العرب وقضاياهم، بناءً على تلك القواعد غير المكتوبة.

صحيح أن الدساتير الغربية تنص على "حرية الإعلام" وتوازنه، إلا أن / مِن الحب ما قتل/؛ فعشق إسرائيل جواز سفر للقوة والسلطة، "ورضا الصهاينة من رضا الله". ولا تحتاج إسرائيل أن يكون لها "لوبي" كي تكون "المفضلة"؛ فهناك مَن جعل المصلحة واحدة والمصير واحد؛ فبعض الغرب، وخاصة أميركا، يرى منطقتنا بالعين الإسرائيلية.

رغم أنه ليس هناك أسهل من إسباغ "تهمة" / معاداة السامية/ عندما تستنكر الإرهاب الإسرائيلي، أو عندما تصف إسرائيل بما هي؛ إلا أن هناك بالتأكيد استثناءات؛ فهناك ضمائر حيّة ومنصفون، لا يتركون الحبل على غاربه لمَن يشوّه الحقائق ويصف الفلسطينيين بالإرهابيين؛ فينصفهم ويسمّي أفعال إسرائيل باسمها.

بالمجمل، وكما اتضح من الأحداث الأخيرة في القدس وغزة وعموم الأرض المحتلة، وفي الساحة العالمية؛ المزاج العالمي يتغيّر. إسرائيل لن تتمكن من الاستمرار بالزيف، والتزييف، وبإخفاء حقيقتها، وتشويه حقيقة وحق الآخرين. فات ذاك الزمن، وربما بدأ الفعل يغيّره، ولا مهرب من رؤية الواقع وحقائقه. فليس استهداف أبنية تحوي مكاتب لمؤسسات إعلامية في قطاع غزة في العدوان الأخير، إلا محاولة لقتل الشاهد على الجريمة الإسرائيلية. ولا انتفاضة الرأي العام العالمي تجاه فلسطين يمكن تشويهها أو التعمية عليها.

تحتاج فلسطين إلى جيل يدرك خطر إعطاء ذلك الإعلام المفلس فرصة ليعود ويشوّه قضية الحق الفلسطينية، إذا ما تم ربطها بإيران الملالي

هناك حقائق تفرض نفسها؛ واللون الغربي الواحد ربما ذهب إلى غير رجعة. ها هي وسائط التواصل الاجتماعي تحوّل كل فرد في عالمنا إلى شبه مؤسسة إعلامية عبر جهاز بحجم كف اليد. ها هو جيل عربي فلسطيني تحديداً مسلّح بلغات ومعرفة بالتقانات وحس ووعي مرهف للعلاقات الإنسانية والحقوق والتواصل والدبلوماسية يحرك ساحات العالم، ويفتح عيونه. فلسطين تحتاج إلى جيل قائد جديد لا يرتمي بأحضان إيران ويرتهن لها، أو يفسح في المجال لأي تماهٍ بين الوسخ والإجرام الخميني، والقضية الفلسطينية. تحتاج فلسطين إلى جيل يدرك خطر إعطاء ذلك الإعلام المفلس فرصة ليعود ويشوّه قضية الحق الفلسطينية، إذا ما تم ربطها بإيران الملالي. 

مهما اجتهدت العقول الشريرة لإخفاء الحقيقة، ومهما تردّى حال شعوب منطقتنا بفعل الاستبداد، المرتبط عضوياً بالاحتلال بناءً ومنهجاً وأهدافاً؛ فإن حالاً كهذا يستحيل أن يدوم؛ لأنه معاكس لحركة الوعي، والتاريخ، والتطور الطبيعي. إسرائيل لا تستطيع الاستمرار بادعاء إلغاء الفلسطينيين. ومقولة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) تتبخر. وربما كينونتها ذاتها موضع شك واهتزاز. وإيران لن تتمكن من ركب القضية الأقدس في عالمنا. على الأقل، ها نحن ربما نشهد نهاية انفصام الرؤية.