نهاية النظام الإيراني.. متى السقوط؟

2020.07.19 | 00:04 دمشق

download.jpeg
+A
حجم الخط
-A

اقترحت الخمينية مثال "الجمهورية الإسلامية"، في توليفة أيديولوجية تدّعي أنها تشكل رداً وجواباً على الشيوعية والرأسمالية في آن واحد. وأنها أيضاً تجترح فلسفة للحكم ونظرية للاقتصاد وهندسة للمجتمع. بمعنى آخر، قدمت الخمينية نظرة شمولية للإنسان وللعالم وللحياة، مرتكزة إلى وعد ديني "أصولي" بتحقيق العدالة والسعادة.

خلال 41 عاماً من تجربة نظام "ولاية الفقيه"، سارت الخمينية بثبات نحو التصلب. الجمهورية الموعودة تحولت بسرعة إلى حكم ثيوقراطي (سيطرة رجال الدين) متشدد، ومتمسك بالسلطة على نحو عنيف ومتطرف. ومنذ بدايات الثورة الإيرانية، بدأت الخمينية بحملة تصفية استئصالية لكل التيارات السياسية القومية أو الليبرالية الديموقراطية أو اليسارية (وحتى التيارات الدينية الأخرى)، لتوطد سلطتها المطلقة، وتصادر "الثورة" لنفسها.

على هذا، بات النظام الوليد يستمد شرعيته من "استمرارية الثورة" وتصديرها وفق ركيزتين: تعميم مثال الخمينية في كل العالم الإسلامي، وتنكب تغيير العالم: إسقاط الامبراطوريتين، أو الامبرياليتين: الشيوعية والرأسمالية. ويتم هذا تحت شعار تعبوي مضمون ومجرّب: تحرير فلسطين.

وباكراً امتُحنت الخمينية ومشروعها في الحرب التي شنها صدام حسين، ودامت 8 سنوات وانتهت بما وصفه الخميني نفسه: "تجرع كأس السم". أي وقف إطلاق النار، الذي عنى فشل تصدير الثورة إلى ثاني أهم بلد من ناحية النسبة السكانية من الشيعة.

النتيجة الأهم، أن الخمينية انحبست بهويتها الشيعية ما أفقدها الادعاء بشمولية إسلامية، فالعالم السنّي – وهو الغالب جغرافياً وسكانياً – أبدى تحفظاً عميقاً بل وحتى العداء تجاه هذا النظام الشيعي، الذي بعث مجدداً تاريخاً عابقاً بالفتنة المذهبية والشقاق الديني. الأمر الثاني، أن طموحات الخمينية أيقظت في ذاكرة العرب التوجس والخوف والريبة من نزاعات فارسية – عربية تخللت التاريخ الطويل لعلاقات القوميتين منذ ما قبل الفتح الإسلامي إلى أواخر الزمن العثماني، وصولاً إلى عهد الشاه ومشاريعه التوسعية في العراق والخليج.

بفقدان القدرة على تصدير الثورة، وخسارة الادعاء بتمثيل الإسلام، وإيقاظ النزعات القومية والمذهبية، ارتسم مأزق "النموذج" الخميني، وفقد جاذبيته ولم يعد مثالاً يحتذى. حتى شعار تحرير فلسطين تحول مع الوقت إلى ذريعة ضعيفة لتجديد شرعية النظام داخل إيران. فدوام "ديبلوماسية" الصراع مع إسرائيل وأميركا والغرب هو الشرط الأبرز وربما الوحيد لاستمرارية هذه السلطة الثيوقراطية وبقاء تسلطها "الثوري" والمسلح (الباسيج والباسدران).

"تحرير فلسطين" ومواجهة الشيطان الأكبر والأصغر، يشكل التمويه الضروري لفشل الخمينية في فلسفتها للحكم وفي نظريتها للاقتصاد وفي هندستها للمجتمع. فلا هي "أفضل" من الرأسمالية ولا من الاشتراكية، ولا استطاعت أصلاً اجتراح أي بديل. ثم أن اغتيال الديموقراطية لم يؤدِ إلى ما هو أعدل أو أحق. وبالتأكيد لا يخبرنا سجل الحريات في إيران بما هو لائق بالمجتمع الإيراني ولا بأي مجتمع آخر.

وفي العقدين الأخيرين، وفي كل مناسبة "انتخابية"، بات التاريخ السيء لحكم الشاه ومخابراته "السافاك"، أقل سوءاً مقارنة بما تقترفه سلطة الولي الفقيه. وهذا أيضاً حرم النظام من ما بقي له من جاذبية أو قدرة على التعبئة.

يشبه النظام الإيراني، في سياساته وانغماسه بلا توقف في الصراع، سمكة القرش التي ينقطع نفسها إن توقفت عن الحركة، فتظل تسبح حتى وهي نائمة. ما يقتل النظام هو أن تصير إيران بلداً طبيعياً. ولذا، "الثورة الدائمة" هي فعلياً الحرب الدائمة. وهي عقيدة حياة لدى نظام الملالي. ليس مهماً أين الحرب ولماذا.. المهم بقاؤها كديناميكية سياسية وعسكرية وأيديولوجية تمد النظام الإيراني بأوكسيجين البقاء، أكان ذلك تورطاً في الحروب الأفغانية أو حتى في نزاع أرمينيا وأذربيجان أو في دول الخليج كلها من دون استثناء أو اليمن والسودان أو غزة أو لبنان وسوريا والعراق.

و"التجربة" الإيرانية بعيدة كل البعد مثلاً عن التجربة البونابراتية، التي تلحفت بشعارات الثورة الفرنسية لتحقيق طموح إمبراطوري في أوروبا. فقد كانت الشعوب الأوروبية كلها متحمسة لرياح الثورة الفرنسية، بما غير وجه أوروبا والعالم إن بشعار "حرية ومساواة وأخوة" أو بشرعة حقوق الإنسان. كذلك، من الظلم مقارنة الخمينية بالشيوعية. فالأخيرة، ورغم سقوطها المدوي وتاريخها الدموي والقمعي، ورغم فشلها في تطبيق نظرياتها.. إلا أنها استطاعت بناء دول وامبراطورية، وخطّت لنفسها أساليب تنمية ضخمة ونافست عملياً وبجدارة الرأسمالية الغربية، وساهمت في إنهاء الاستعمار وفي رفد حركات التحرر الوطني بالمدد الفكري والمادي، وهي جزء لا يتجزأ من جدلية الحداثة نفسها التي تحكم العالم. فاليسار كما اليمين ما زال فعالاً في المسيرة الإنسانية (سياسة وفكراً واقتصاداً). أما الخمينية فانتهت إلى إدقاع وبؤس نظري وسياسي بالسوية ذاتها التي انتهى إليها "البعث" وما شابهه.

ويتبدى هذا البؤس الأيديولوجي وضحالته، ليس فقط في استحالة الأصولية واستحالة "العودة" المتوهمة إلى زمن افتراضي (غير حقيقي ولا تاريخي) منسوب إلى عهد النبي والصحابة والخلفاء الراشدين، بقدر ما منسوب أيضاً إلى تصور انبعاث امبراطورية إسلامية تمتد من الصين إلى إسبانيا.. بل يتبدى أكثر، في المآلات التي انتهت إليها المجتمعات والبلدان التي "غزتها" أو تسللت إليها الخمينية. إذ نجحت هذه الخمينية في أمر واحد لا غير: الخراب.

في العام 2009، أي قبل "الربيع العربي" بسنتين، كانت الثورة الخضراء في إيران. خرج ملايين الإيرانيين بمطالب واضحة: الحرية والعدالة والديموقراطية.. والأهم وقف مشاريع التورط في غزة أو لبنان أو غيرهما. النتيجة كانت قمعاً شديداً وبطشاً واسع النطاق في كل البلاد. أدرك النظام أنه فشل كمثال، وإن نجح كسلطة شرسة وراسخة بالقوة. ومنذ ذلك الحين، نمت العداوة بين شرائح واسعة من المجتمع الإيراني والسلطة القائمة. بل أدرك النظام أنه مضطر هذه المرة إلى "تصدير" مأزقه الداخلي، شعاراتياً ضد أميركا وإسرائيل، وعملياً ضد الدول المجاورة التي تحولت مسرحاً ملتهباً، فتكت فيها إيران، ومزقت مجتمعاتها طوائف ومذاهب وميليشيات متحاربة، وأقامت فيها "دويلات" مسلحة أقوى من الجيوش الوطنية، تنهب قدرات الدولة وتخرب اقتصادها وتستولي على مقدراتها.

أسوأ ما يصيب إيران اليوم، أن ما صدّرته بات يرتد عليها، دولة منبوذة ومعزولة ومحاصرة، ونفوذها العسكري يتزعزع في كل مكان، أما تداعيات الحروب المتورطة فيها، فقد وصلت نيرانها إلى داخلها. فالضربات والتفجيرات "الاستراتيجية" في العمق الإيراني وفي منشآتها الحيوية أظهر ضعفاً خطيراً يهدد النظام وصورة جبروته.

الفشل الأيديولوجي.. يتبعه اليوم الفشل السياسي والعسكري. إنه الإفلاس الذي يسبق السقوط. والخوف كله أن يسلك النظام مسلك المكابرة والعناد، بما يجعل كلفة التغيير كارثية بل وجحيمية على الشعب الإيراني وشعوب المنطقة كلها، تماماً كما حدث في "سوريا الأسد".

كلمات مفتاحية