نقد "الجامعة السورية"

2021.06.01 | 06:50 دمشق

12111.jpg
+A
حجم الخط
-A

لو أراد الباحث أن يتابع الوثائق التي كتبت في العقد الماضي بين المثقفين والمفكرين السوريين، لوجدها تشترك في حديثها المكرور حول مفهوم "الدولة الوطنية"، إذ قلما يخلو منه حديث أي من السياسيين والباحثين، بحيث بات أكثر المصطلحات السياسية تداولا في الكتابات السورية، وممرا لازما في نظر العديد من المثقفين للخروج من حالة الصراع الحالية.

يبدو مفهوم "الدولة الوطنية"، وفق تلك الوثائق والنصوص والكتابات، إكسير الحياة أو نبتة الخلود التي عُثِرَ عليها بعد لأي، والتي سنستعيد من خلال التداوي بها الدولة السورية المريضة أو التي تعاني سكرات الموت. غير أن الحديث عن الدولة الوطنية هو في الغالب الأعم حديث مفكرين ومثقفين ينظّرون للدولة الوطنية من زاوية رؤى لا تتجاهل سيرورة قيام الدولة الوطنية في العالم الأوروبي فحسب، وإنما تتجاهل أيضا الواقع السوري الذي يراد تغييره، واختلاف الظروف المحيطة به عن الظروف التي أدت إلى نشوء الدولة الوطنية "الأوروبية".

السوريون لم يقوموا بثورتهم ضد الفكرة القومية، ولا من أجل بناء "جامعة سورية"، وإنما لاسترجاع الفكرة القومية وتخليصها من يد النظام

في إطار هذا الجدل والنقاش، طرح يوسف سلامة فكرة "الجامعة السورية" بوصفها فكرة جامعة جديدة، بديلة من الفكرة التي كان "النظام يحكم بها سوريا بالحديد والنار". والمقصود هنا أن النظام كان يحكم السوريين بالفكرة القومية عبر الجبر والإكراه، وهو رأي يناقض حقائق التاريخ ومعطيات الواقع. فالوعي القومي تخلق قبل ظهور الدولة السورية نفسها، والتيار القومي كان هو الوسيلة أو الإيديولوجيا التي استغلها النظام السوري للوصل إلى السلطة، وتحويلها إلى سلطة طائفية. فالسوريون لم يقوموا بثورتهم ضد الفكرة القومية، ولا من أجل بناء "جامعة سورية"، وإنما لاسترجاع الفكرة القومية وتخليصها من يد النظام الذي حولها إلى مشجب يخفي وراءه طائفيته وارتهانه لمشاريع تتناقض مع طروحاته القومية. فالخلاف مع النظام لم يكن من أجل قضية إيديولوجية في المقام الأول، ولكن من أجل حقوق سياسية، سلبها النظام من السوريين تحت شعارات تخفي غير ما تبطن.

يتضمن التعريف بالجامعة السورية عند يوسف سلامة إشارة إلى "موت الأفكار التي حكم بها النظام السوري سوريا، وتجاوز وعي السوريين جميعا لهذه الأفكار". وهذا حديث يفترض ضمنا أن الفكرة القومية قد ماتت في أذهان السوريين، وأن وعيهم تجاوز الأفكار القومية، مثلما يتضمن افتراضا مفاده أن هيمنة النظام السوري تتوسل الإقناع والحوار. والحقيقة أن الأفكار القومية لم تمت في أذهان السوريين، بل إنها من الأفكار الأكثر حضورا لديهم، كما أن النظام السوري لا يحكم إلا من خلال القوة المجردة العارية، القوة التي توظف الأجهزة الأمنية والجيش في سبيل بقائها، أما المنطق أو الإقناع فهذا آخر ما يفكر به النظام السوري.

في هذا السياق، يأتي الإطناب في مديح الدولة الوطنية، المسماة هنا "الجامعة السورية"، لذم الفكرة القومية ذاتها، ونقد أدبياتها، إذ يجري تحميلها مسؤولية العمل على "استعادة فكر إمبراطوري قديم، والحلم بوحدة عربية غير قابلة للتحقيق عمليا". وهذا الحديث عن الدولة الوطنية يتجاهل ما أصبح معروفا منذ الستينيات تقريبا، وخصوصا منذ انهيار الوحدة مع مصر، وهو أن الدولة الوطنية، بما هي نظام إداري وسياسي يفرض سيادته على بقعة جغرافية معينة، هي التي انتصرت في المعركة، ولم تعد المشاريع الوحدوية تتعدى فكرة الاتحادات، وفي أحسن الأحوال التفكير بالتنسيق، وإن لم يؤد هذا طبعا إلى اختفاء فكرة الوحدة لا من الأدبيات السياسية ولا من الشعور الجمعي.

 وتذهب بعض الكتابات بعيدا، فترى أن الإخفاق في قيام "الجامعة السورية" يقع على عاتق التيار الإسلامي، مع أن هذا التيار لم يتمكن من الوصول إلى الحكم في تاريخ سوريا المعاصر، ومن ثم فإن الإنصاف يقتضي عدم تحميله وزر إجهاض "المشروع  الوطني" المتخيل، فعلى الرغم من حضور الدين في الحياة العامة، وفي توجيه السلوك الشخصي للأفراد، فإن تجلياته في الجانب السياسي ظلت هامشية، لم تتجاوز التعاطف مع قضايا المسلمين، والتواصل مع الشخصيات والتيارات المؤثرة والفاعلة في المجتمعات الإسلامية، دون أن يصل ذلك إلى الطموح نحو تشكيل دولة إسلامية واحدة، إلا في أدبيات معزولة، لم يكن لها أي تأثير حتى في أوساط الإسلام السياسي السوري. أما الحديث عن الجماعات الجهادية التي دخلت سوريا بعد عام 2012م، فهذه الجماعات دخلت بعد انهيار البعد الوطني للصراع، ودخول الميليشيات الطائفية التي استقدمها النظام، فحضورها كانت نتيجة لغياب الهوية الوطنية لا سببا في انعدامها.

وإذا كان من الممكن تسويغ  نقد "الجامعة العربية"، و"الجامعة الإسلامية"، من ناحية حضور هذين التيارين في الحياة العامة بدرجة أو بأخرى، فإن تحميل "الجامعة البروليتارية" وزر دم "الجامعة السورية" المتخيلة أمر يبدو غريبا، فالاتجاه اليساري لم يكن له حضور واسع في المجتمع السوري، وكان مقصورا على فئة محدودة من السوريين، وقد أثبتت السنوات السابقة من عمر الثورة أنه كان قشرة رقيقة، في ظل نكوص معظم أنصاره، وعودتهم إلى وعيهم الأهلي، الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حيال الأسباب الحقيقة وراء انخراط أولئك ضمن التيار اليساري عموما.

لهذا، يبدو الحديث عن "الجامعة السورية" بوصفها إيديولوجيا، يمكن أن يستظل في فيئها السوريون، حديث أمنيات وآمال أكثر منه حديثا واقعيا. وبغض النظر عن النظرة التقسيمية التي ينطلق منها المصطلح الذي يذكّرنا بالجامعة الإسلامية التي طرحت في نهاية الدولة العثمانية، بحيث نخشى أن يكون مصير "سوريا" مشابها لمصير بلدان الجامعة الإسلامية آنذاك، وبغض النظر أيضا عن فكرة "السورية" التي تبدو أقرب إلى أدبيات الحزب القومي الاجتماعي السوري، وهي أدبيات واضحة في نظرتها العنصرية للعرب عموما، فالإصرار على الحديث عن "سوريا" معناه إطالة أمد "الصراع"، لأن كل طرف يرى سوريا من وجهة نظر مغايرة للطرف الآخر، فسوريا كيان جغرافي وإداري، يسكنه شعب تجمعه روابط الدم واللغة والمصالح المشتركة مع شعوب أخرى في هذه المنطقة العربية التي تثبت الأحداث، يوما بعد يوم، أنه لا يمكن فصل شعب من شعوبها عن بقية الشعوب. كما أن السوريين لا يمكن أن يواجهوا بسوريتهم المتخيلة المشاريع الأجنبية على أرضهم، فهذه المشاريع تستثمر في انقسامهم وخلافهم حول "سوريا" نفسها.

ما تحتاج إليه سوريا أولا دولة قانون، دولة قانون تساوي بين مواطنيها، ولكن المساواة الحقوقية لا تعني تمييع الطابع العام للبلاد

وإذا كان يراد من وراء "الجامعة السورية" التعالي على حالات الانقسام المجتمعي التي تعصف بالسوريين اليوم، وتجاوز الانقسامات الطائفية التي أدت إلى شرذمة المجتمع، فإن الفكرة القومية، بعد تحريرها من السلوك الطائفي للنظام، واتجاهها الإقصائي نحو الأكراد، هي مظلة أعم من المظلة السورية. فالعودة إلى طرح فكرة العروبة بمعناها الثقافي والفكري الأوسع يمكن أن تشكل حلا ينهي كل هذا التشرذم والانقسام. فتحديث فكرة مازال لها أثر كبير في نفوس السوريين على اختلاف طوائفهم، حتى تستوعب معطيات المرحلة التاريخية الحاضرة، أسهل بكثير من اختراع فكرة تعيش في أفكار نخبة محدودة من الباحثين والمفكرين.

ما تحتاج إليه سوريا أولا دولة قانون، دولة قانون تساوي بين مواطنيها، ولكن المساواة الحقوقية لا تعني تمييع الطابع العام للبلاد، الطابع الذي يتجلى في عنصرين: العروبة والإسلام، فما تحتاج إليه سوريا هو نظام يقوم على إسلام بلا تشدد، وعروبة بلا إقصاء.