نقاش «المظلومية العلوية»

2020.05.04 | 00:01 دمشق

images.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مطلع العهد العثماني تركّز الوجود العلوي في بلاد الشام ضمن حدود ولاية طرابلس. وفي شباط 1584 كتب الباب العالي من إسطنبول رداً لأمين ديوان السنجق قال فيه: لقد تقدمتم بعريضة تفيد بأن أغلبية سكان جبال طرابلس هم من طائفة النصيرية الروافض، وبأنهم دائماً يجلبون الخمر بغرض البيع والاتّجار، وبأنه من المجدي لخزينة الدولة أن تُفرض على أمثال هؤلاء الناس ضريبة؛ وعليه فقد قررت بأن يسجّل الدفتر الهمايوني الجديد أن تُفرض على النصي ريين الذين يجلبون أحمالاً من الخارج لبيعها ضريبة الخمر.

ربما تلخص هذه المراسلة ما أراد ستيفان وينتر، الأستاذ الكندي المشارك في التاريخ، أن يبيّنه في كتابه «تاريخ العلويين: من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية»، الذي صدر في 500 صفحة، بترجمة أحمد نظير الأتاسي وباسل وطفة، عن مركز حرمون ودار ميسلون، عام 2018.

يلاحظ وينتر، منتقداً، أنه غالباً ما اختزل تاريخ العلويين إلى موضوع واحد وشامل من الهرطقة الدينية والهامشية والاضطهاد. تحضر هذه السردية الشاملة في الإعلام، ويسهم فيها عدد لا بأس به من الأكاديميين، ويوافق عليها أنصار الأسد في الحرب الحالية ومعارضوه. ووفق هذه الرؤية فإن فتوى أصدرها العالم المشهور ابن تيمية تدعو إلى القضاء المبرم على العلويين يمكنها أن تلخص تجربتهم تحت حكم السنّة، وإنهم لم يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة إلا نتيجة تحصنهم في «ملجئهم الجبلي» شمال غرب سوريا، قبل أن يخرجوا من عزلتهم أثناء الانتداب الفرنسي ويستولوا على السلطة على كل البلد في نهاية الأمر.

المشكلة في مفهوم «الاضطهاد التاريخي» وغيره من التقييمات الشاملة، حسب وينتر، هي أن الدلائل التاريخية لا تدعمها. وأنها تحوّل صراعات مجتمعية عرَضية وذات طبيعة نادرة إلى سردية كاملة محبوكة من حفنة من الإشارات إلى ما يبدو أنه حالات نزاع واضطهاد وعنف طائفي، لإنتاج قصة صراع لا يبدو أن له نهاية.

مع ملاحظة أن التركيز على الاختلاف المذهبي جزء من نسق تفسيري أوسع يفترض ألا شيء حقيقة يعلو على الدين في الشرق الأوسط. وبهذا المعنى تحولت فتوى ابن تيمية لتصبح تعبيراً عن الرأي الواحد والثابت للسنّة حول العلويين. في حين أن هذه الفتوى قد أصدرت دعماً لسياسة مملوكية أوسع نطاقاً ضد الفرق المبتدعة، وأن صاحبها نفسه كان منبوذاً، ولم يكن لآرائه تأثير في الفكر الإسلامي حتى ظهور الدعوة السلفية في القرن الثامن عشر.

كما أن ثورة منطقة جبلة عام 1318، وهي تمرد ضريبي ممزوج بالمهدوية وواحدة من أحداث العنف الطائفي القليلة الموثقة، أصبحت صورة نمطية لقدَر العلويين وصار من المعتاد تقديمها مثالاً عن سياسة مملوكية عامة، في حين أنها حالة وحيدة من عنف هذه الدولة المنظم ضدهم، ولا يمكن اتخاذها دليلاً على قمع مستمر.

كما يبدو «الملاذ الجبلي» أكثر الكليشيهات رسوخاً في التاريخ العلوي. بينما لم يأتِ الدروز، أو الإسماعيليون، أو الشيعة، أو العلويون إلى المنطقة هرباً من اضطهاد فعلي في مكان آخر، كما لم تكن الدولة عاجزة فعلاً عن فرض سيطرتها في الجبال، ولكن لم يكن شاغلها ملاحقة الدعوات البدَعية الريفية بعد أن نجحت في مأسسة المذهب السنّي في الحواضر، عبر بناء المساجد ودعم المدارس بالأوقاف.

أما «متلازمة ابن تيمية» فعنت الخوف المتجذر بين العلويين من أن «كل» السنّة «كانوا دائماً» يكنّون الكره للجماعة ويرغبون باستئصالها بحسب ما جاء في هذه الفتوى. وقد روّج النظام لهذه الرؤية التي فرضت «ثيمة» ثابتة من «اضطهاد» لا يراجع نفسه، لا يكل ولا يميز.

يركز هذا النوع من قراءة التاريخ على حوادث مثبتة لكنها معزولة، مبالِغاً في إبراز أحداث متفرقة من النزاع المذهبي، ومفسِّراً القمع الضريبي على أنه اضطهاد، وآخذاً الآراء التحقيرية لبعض الفقهاء وكتّاب الفِرَق بوصفها تجربة معاشة. وبهذه الطريقة أصبح من الطبيعي عرض ألف عام من التاريخ العلوي وكأنها مختزلة في فتوى أو متمثلة في مجزرة حلب التي لم تحدث قط، بينما حصل تمرد جبلي لا يُعتنى بذكره في وقت مقارب.

يحاجج أصحاب هذه الرؤية بعدم توافر مصادر موثوقة عن وضع العلويين بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، بينما يثبت الكتاب العكس. فهو يستند إلى معجم تراجم علوي مخطوط يحوي عدداً من سيَر مشايخ الطائفة في العصور الوسطى والعهد العثماني، يقدّم إشارات متناثرة إلى علويين يتفاعلون على مستوى يومي مع موظفين أيوبيين ومملوكيين ومع جيرانهم من الإسماعيليين. كما يرجع وينتر إلى عدد كبير من كراسات الإدارة المملوكية، ومن الوثائق الأرشيفية وسجلات الضرائب العثمانية، وسجلات المحاكم الشرعية المحلية في طرابلس وحماة وأنطاكية، وأرشيف الإصلاحية العثمانية التي كانت مهتمة بالتقارير الرسمية المرسلة من سوريا والتعقيب عليها، وخاصة بعد حركة التنظيمات وإنشاء وزارات الحكومة وهوس السلطان عبد الحميد الثاني بالإشراف على إدارة الدولة شخصياً من قصر يلدز، وأخيراً مخزون كبير من روايات الرحالة الأوربيين والمكاتبات الدبلوماسية في القرن التاسع عشر؛ وكل هذه المصادر تطعن في التصور القائل إن المجتمع العلوي كان معزولاً عن المحيط، أو متمايزاً عن غيره من الجماعات الريفية، أو خاضعاً لتمييز منتظم.

كانت السلطات المملوكية والعثمانية على علم وثيق بالهوية المذهبية لرعاياها هؤلاء الذين فرضت على عامليهم «درهم الرجال»، في حين لم تكن تعير إلا اليسير من الاهتمام لعقائدهم الدينية الفعلية. وتثبت سجلات الضرائب العثمانية في القرن السادس عشر مدى هيمنة السلطنة على المنطقة، وامتناعها عن أي محاولة لإبادة السكان العلويين، كما تزعم روايات محلية، بل السعي إلى تحصيل أكبر ما يمكن من العائدات ضمن الصبغة التمييزية والقمعية لنظام الضرائب الإمبراطوري. وحين ضعفت سلطة المركز العثماني في القرن الثامن عشر، وشاعت الجباية عبر الالتزام؛ لم يبلور ذلك صعود سلالات حاكمة في الأطراف مثل آل العظم في حماة ودمشق فحسب، بل أيضاً بروز كثير من بيوتات الأعيان الريفيين من عائلات علوية معروفة، مثل آل شمسين (الشبلي) من صافيتا والشِلِّف من البهلولية، كملتزمين ضريبياً في المنطقة. وبالتدريج سُمّي كثير من شيوخ القرى أو الطوائف المختلفة مقدَّمين (زعماء) وأوكلت إليهم مسؤولية الجباية وتمثيل مجتمعاتهم. وقد استفادت بعض هذه العائلات من التطور غير المسبوق لزراعة التبغ التجارية لتصبح طبقة حقيقية من الملاك.

في حين أدى التفتت المتزايد للسلطة الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر إلى دخول طبقة الأعيان هؤلاء في صراع مع مسؤولين عثمانيين محليين شبه مستقلين سيعدّون العلويين جماعة من الهراطقة والمنبوذين لأول مرة. كما في عهد مصطفى آغا بربر، وهو إنكشاري فرض نفسه بالقوة حتى صار متسلّماً على مدينة طرابلس، وشهد حكمه ارتفاعاً في وتيرة الخلاف مع العلويين والعنف الصريح ضدهم. اتخذت معاملة العلويين تحت حكم بربر منحى تصاعدياً في وحشيته، لكن لا شيء مماثلاً تم توثيقه قبل هذه المحنة أو بعدها، ولا يوجد ما يشير إلى أن أمثال بربر قد استندوا إلى أحكام دينية في معاملتهم القاسية للعلويين.

فإذا تعدينا حدود الحاجة العامة إلى إرساء النظام والأمن في الأقاليم، وهو ما فعلته السلطنة ضد الوهابيين والدروز واليونانيين وسواهم من المتمردين؛ لا يبدو أن هذه الاضطرابات الطائفية في اللاذقية أثارت كثيراً من الاهتمام في إسطنبول حيث كان عدد من رجالات الإمبراطورية حينها من أصل علوي.

أما تأسيس الجيش العثماني النظامي بعد التنظيمات، وإثر انسحاب الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا، فأدى إلى إحصاء سكاني جديد وشامل للشريحة المستهدفة في عمر التجنيد، وهو أول عملية من نوعها منذ المسوحات الضريبية. وقد جوبه التجنيد الإلزامي بمقاومة شديدة من العلويين، وخاصة على أعتاب حرب القرم. وعيّنت السلطات العثمانية مديراً أو جابي ضرائب في كل منطقة بدلاً من نظام الالتزام القديم، وواظبت على إرسال الجنود في كل مرة حصل فيها تمرد نتيجة التأخير في دفع المستحقات، وأسست نظام المدارس العمومية، واستحدثت هيئات سياسية تمثيلية مناطقية كان من الطبيعي أن يدخلها وجهاء ومتعلمون علويون.

وفي الواقع فإن إجراءات الهندسة الاجتماعية هذه، المرتبطة بدولة البيروقراطية الحديثة تحت سلطة التنظيمات ثم حكم عبد الحميد الثاني، كانت مساواتية لكل المواطنين العثمانيين، ولم تشمل العلويين بشكل خاص إلا ضمن برنامج «تصحيح العقائد» الرسمي أيام عبد الحميد، والذي عنى الضغط على الطوائف الإسلامية باتجاه التحول إلى المذهب السنّي، وهو ما لم ينجح بطبيعة الحال.

لكن ما الهدف من تفكيك المظلومية العلوية ونقلها من حالة السردية الشاملة إلى الوقائع المتعيّنة للتاريخ؟

يرى وينتر أنه في المستقبل، المتوسط أو الطويل، لن يجد السوريون بديلاً عن إعادة بناء وطنهم ولحمته بشكل أو بآخر. وعندها قد يجدون أن علاقة العلويين مع سواهم من جماعات البلاد لم تكن محدّدة حصراً بعداوة شاملة واضطهاد لا مفر منه، بل اتسمت مراراً بالتكيف والتعاون وتبادل الثقة. وحينها ربما يكون هذا الدرس ما يزال محتفظاً بأهميته.