نظرة في الاستعلاء الفرنسي

2020.11.03 | 23:42 دمشق

thumbs_b_c_c314a74bdedc8e64516ed8546c104a44.jpg
+A
حجم الخط
-A

يُشير تاريخ العلاقة الحديث والمعاصر بين الشمال والجنوب - الغرب والشرق، وبشكل أدق، تاريخ العلاقة بين الدول القويّة والمركزية في النظام الدولي الناتج إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، والدول الأخرى كبُرَ حجمها أم صغُر، إلى محتوى الطُرفة – المفارَقة التي تقول "جميع الناس متساوون، إلا أنّ بعضهم أكثر تساوياً من البعض الآخر". فالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، تتساوى مع بقيّة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة - من حيث المبدأ - وفقاً لنص المادة (2) من ميثاق إنشاء المنظمة، والتي تقول في فقرتها الأولى: " تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها.‏" لكنّها، أي هذه الدول الخمس تملك حق النقض (Veto) مسنداً إلى نص الفقرة الثالثة من المادة (27) التي تشترط موافقة جميع الأعضاء الدائمين على القرارات الصادرة في غير المسائل الإجرائية للمجلس. وهذا ما يجعل من مبدأ المساواة مجرّد شعار باهت الألوان لا قيمة له عند التطبيق العملي.

وإن أردنا وضع الأمور في نصابها الحقيقي، لم تخرج فرنسا منتصرة في الحرب العالمية الثانية، فأراضيها كانت مُحتلّة من قبل الجيش النازي الألماني، وتمّ تحريرها على أيدي قوات الحلفاء، الذين لولا تدخّل الولايات المتحدة لكانوا جميعهم الآن يتحدّثون الألمانية، كما أشار ساخراً الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوماً لنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.

لكنّ تاريخ الاستعلاء الفرنسي لا يزيله الانكسار المخجل والسريع أمام الألمان، فهم بالنهاية واحد بالمفهوم الجمعي بمواجهة الآخر المختلف، أي شعوب المستعمرات ودول العالم الأدنى درجة في سلّم الحضارة، كما يعرّفونها ويفهمونها ويمارسونها ويحاولون جعلها حقائق ومسلمات غير قابلة للجدل والنقاش.

ينظر الغرب، الأوروبي خاصّة، إلى الشرق بشكل عام والشرق الأدنى – العربي الإسلامي على الخصوص كمن ينظر في مرآة نفسه، فهو يسقط بشكل أو بآخر نتائج الصراعات الأوروبيّة البينية منذ مرحلة الإصلاح البروتستانتي بثوبيه اللوثري – الكالفيني، وما تبعه من حروب دينية أنتجت في نهايتها مفهوم التجانس الديني، المعبّر عنه بقاعدة (الناس على دين ملوكهم) وصولاً إلى بدايات تشكّل الدولة الوطنية والهوية القومية في تضاد مع الكنيسة كحال فرنسا أو في تناغم معها كحال بريطانيا، يُسقط ذلك كلّه على الشرق، فيراه مجموعة من الأقليات والأكثريات الدينية، ولا يعترف لمجتمعاته وشعوبه بتقديرِ أو استحقاقِ العيش الطبيعي المشترك ضمن مفاهيم المواطنة الحديثة.

"نشأ رابطٌ مباشرٌ بين الكنيسة والدولة في الدول الأوروبية كلها بعد حركة الإصلاح الديني تحديداً، تقوم بموجبه الدولة بفرض تجانس ديني (Homogeneity) وفي الحالة المذهبية (Uniformity) على السكان، وتحرم المنشقين من حقوق أساسية يتمتع بها غيرهم من السكان. كان هذا هو الحال في فرنسا وإسبانيا وإنكلترا وألمانيا.

وبعد تحرر الكنيسة من قبضة الدولة بثمن التخلي عن هذه الخدمات المتمثلة بإجبار السكان على اعتناقها، نشأ مفهوم الأكثرية والأقلية الدينية. وهي ليست أكثرية أو أقلية بالرأي ولا بالمواطنة، بل بالدين والثقافة.... واحتاج الأمر إلى وقت طويل حتى جرى التغلب على مفهوم الأكثرية والأقلية هذا، لكنّهُ صُدّر إلى مناطق الدولة العثمانية المركّبة إثنياً ودينياً ومذهبياً.... وخلافاً لما يُعتقد، لا تتعامل أوروبا مع العرب والمسلمين من منطلق نظرتها إلى ماضيهم، بل من منطلق ماضيها. فمن المنظور الأوروبي يمثل العرب والمسلمون ماضي أوروبا، فيما يتعلّق بعلاقة الدين بالدولة أو بمفهوم الأكثرية والأقلية في الماضي الأوروبي."

يرى الأوروبيون، والغربيون منهم على وجه الخصوص، أنفسهم ورثة الحضارتين الرومانية واليونانية، ويحاولون القفز عموماً على مرحلة الصراعات الدموية التي عاشوها خلال فترة ما أطلق عليه تسمية العصور الوسطى، ويذهب الاتجاه الغالب في الفكر الغربي، إلى أنّ عصر التنوير جاء استكمالاً لتلك الحقبة الذهبية من التاريخ. والحقيقة أنّ ذلك غير صحيح على الإطلاق، فالتنوير جاء من رحم التفاعلات المجتمعية التي أخذت أشكالاً متعددة الوجوه، وإن كان وجهها الصارخ قد تمثّل بالصراع بين الكنيسة والسلطة الزمنية، أي الملوك والأمراء والإقطاعيين. لم يكن التنوير ولا الحداثة قفزة من فراغ، بل كانا نتاج سنوات طويلة من التلاقح المعرفي مع المحيط الإسلامي من جهة، ونتاج عمليات التطور البطيء الذي انفتحت أبوابه على مصراعيها بالتزامن مع توطين اللغات القومية استجابة لمتطلبات الإصلاح البروتستانتي من جهة ثانية.

لعب مارتن لوثر – الذي مرّ يوم 31/10/2020 خمسمائة وثلاثة أعوام على تاريخ نشره اعتراضا على لاهوت التحرير وسلطة البابا في الحلّ من العقاب الأرضي للخطيئة - لعب دوراً هاماً في قومنة  ليس فقط الإمارات الألمانية، بل إلى معظم ممالك وإمارات أوروبا، عندما ترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية، وهو ما حصل لاحقاً مع اللغات الإنكليزية والفرنسية

والبولندية والإسبانية والإيطالية وغيرها من اللغات الأوروبية. كذلك كان لحروب نابليون بونابرت أهمية في تعزيز النزعة القومية عند الألمان وغيرهم، ولعبت الاكتشافات الجغرافية أدواراً هائلة في عملية التحديث، فقد انطلقت جموع الطامحين المغامرين من أوروبا إلى القارة الجديدة وبنت هناك دول حديثة ذات خصوصية مختلفة عمّا كانت عليه الدول الأوروبية القديمة. في أميركا الشمالية حلّ الأوربيون بالكامل مكان السكان الأصليين، لذلك كانت دولهم الناشئة مثل أميركا وكندا، أوروبية الطابع بشكل تام من جهة، ومن جهة ثانية كانت متخلّصة من شوائب الحروب البينية على أسس دينية مذهبية بين البروتستانت والكاثوليك.

أرسى الغزاة الأوربيون مفاهيم تفوّق العرق الأبيض عند شعوب البلدان المستعمرة، وأصبح من السهل على الساسة الأوربيين، كما على أغلب المستشرقين، إطلاق التعميمات والتصنيفات المستندة إلى رؤية نمطية أنتجوها وفقاً لمعاييرهم الخاصة عنّا، وهكذا يستطيع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يقرر ما إذا كان الإسلام يعيش في أزمة حالياً أم لا. تتجسّد القوّة التي تساعده على ذلك في وجود إمكانيّة حقيقية لتحديد الآخر المختلف – الذي هو هنا الإسلام - وبناءً عليه يتمّ إثبات الذات، فبأضّدادها تُعرف الأشياء، وكلّ نفي يتضمّن في ذاته إثباتاً للضد. الإسلام هو الآخر المختلف، وأهمّ ما يميّزه هو إمكانية اتخاذه دريئة لتصويب مسارات التحرّك باعتباره إحدى نقاط العلّام في طريق تعريف الذات.

من هنا، نجد نظرة الاستعلاء الفرنسي متجذّرة في ثقافة النخب السياسية الحاكمة عبر عشرات العقود التي تسيّدت فيها أوروبا ركب التطور والحضارة البشرية، ويبدو أنها لن تتغيّر في القريب من الأعوام القادمة، لأنّه ما من مؤشرات على تغيّر أحوالنا، نحنُ الذين يتمّ وضعنا في مواجهة مباشرة مع قيم العدالة والحرية والديمقراطية، وكأنها لا تناسبنا ولا تصلح لنا، فهي بالنتيجة مُنتج أوروبي أبيض لا يليق بغير الأوروبيين وأحفادهم من الأميركيين والكنديين وغيرهم ممارستها، ولا حتى مجرّد استيعابها.