نحو عقد اجتماعي سوري جديد.. وضوح الرؤية في حوار رياض حجاب

2021.05.04 | 06:23 دمشق

screenshot_2021-05-03_222800.png
+A
حجم الخط
-A

استعمل د. رياض حجاب في إطار ردوده على أسئلة الإعلامية نور الهدى مراد، عبر منتدى دمشق، على شاشة تلفزيون سوريا، خطاباً حجاجياً إقناعياً، مبتعداً إلى حد كبير عن سمات الخطاب التجييشي أو الإلغائي، وقد عضّد الوسائل الحِجاجية التي استعملها بتجارب عاشها، نهلت من الماضي القريب، وحوارات ونقاشات معاصرة خاضها مع فاعلين في الملف السوري، إضافة إلى محاولته الاستشهاد بتجارب محدَّدة اليوم والتاريخ. وكان من سمات خطابه الحجاجي كذلك الوضوح، الوضوح الذي يحتاجه الشعب السوري اليوم، كي لا يبني أحلاماً من كلمات، أو "بروبوغندا إعلامية" أو رسائل غرام نحو دول لا تفهم السياسة إلا بصفتها لعبة تكسير رؤوس للسوريين. وقد قدمت ثيمات الخطاب الحجاجي صورة مرحلية عن المشهد السوري الحالي، وأبرز قضاياه وآفاق حله.

من اللافت والمبشّر أن د. حجاب، بلغة الخبير في الوضع السوري وتقاطعاته، لا يوجد لديه أيّ وهم أن روسيا وإيران ستقودان حلاً في سوريا، إذ إن مهمتهما الرئيسية إعاقة الحل، ومطمطة الوقت، وتضييع البوصلة.

 قد تضطر قوى المعارضة السورية للتواصل مع الإيرانيين مثلاً، في مرحلة من المراحل، لكن من المهم  أن تبقى الرؤية واضحة لدى من يتواصل معهم، أن سوريا في نظر الإيرانيين ليست أكثر من أداة، وورقة تفاوض، وجسر، وورقة لعب، وجزء من مشروع، ومنطقة تغوّل وتوغل، لا يهم إيران من سوريا إلا ما تستفيد منه، لا يوجد لدى الإيرانيين أي رؤية نحو بناء دولة سورية، أو أي شعور بالمسؤولية الأخلاقية في أدنى حدودها، ما يهمها كيف تستثمرك وتمتصك، دون أن تقدم لك أي شيء، إلا ما يبقيك حياً كي تمتصك أكثر وأكثر، لأن الحدود الدنيا للعمل الأخلاقي السياسي للعلاقات بين الدول لا يوجد في أدبيات المشروع الفارسي، وهم الذين لا يرون في سوريا سوى أداة من أدوات في المشروع الفارسي المؤجل!

أذكر في هذا السياق، أن سنة 2008 وفي إطار فريق تفاوضي بين وزارة التعليم العالي السورية مع الإيرانيين قال أحمدي نجاد حرفياً في طهران إبان استقباله للوفد وقد كنت أحد أعضائه: إن لم توافقوا على شروط المفاوضات سأتحدث مع بشار الأسد، وحين طلب الوزير المعني من المترجم توضيحاً وتصحيحاً (اسمه الرئيس بشار الأسد) ابتسم نجاد ابتسامة ماكرة، ولم يصحح اللقب.

 وفي إطار جولة أخرى من المفاوضات قال وزير التعليم العالي الإيراني لنظيره السوري: من أنتم حتى تقارنوا سوريا بإيران؟

إن دولة ومرشداً ورئاسة وحكومة تنظر إلى سوريا بهذه العيون لا يمكنها أن تبحث عن أيّ حلّ يخرجها من محنتها.

ما هو البديل عن هذا المشروع الإيراني الروسي؟

هاهنا تحضر لغة الخبير فيما يقوله رياض حجاب في خطابه الحجاجي، وهو الذي خبر العمل السياسي جيداً، إذ يعلم أن المشروع الإيراني الروسي (باختلافاته وتعدد وجهه) مشروع إقليمي ودولي متجذر، ولديه أدوات كثيرة على الأرض، ولا يمكن أن يزاح إلا إن كان هناك مشروع مقابل يمكن أن يخفف من حضوره الثقيل، هو ليس بمشروع عمل خيري، بل مشروع سياسي لئيم، لا بد أن يقابله مشروع آخر أخفّ وطأة على السوريين، فهل سيكون المشروع العربي، التركي، الأمريكي، الدولي، هو الحل أمام البلطجة الروسية الإيرانية والامتصاص اللامحدود للوجود السوري، ثمة فرصة بولادة مشروع بديل يعوّل على أخلاقيات التعامل السياسي بين الدول، صيغة لا غالب ولا مغلوب، صيغة حفظ المصالح المشتركة، والبحث عن حل يخفف المعاناة عن الملايين السورية.

يحاول أن يلملم د.حجاب بحواره الصريح مشروعاً بديلاً  لذاك المشروع التدميري، وهو يدرك أن أعضاء المشروع البديل أو المواجه، يختلفون اختلافاً جذرياً في قراءة عدة تفاصيل سورية، وما يريده كل واحد منهم من مشروع سوريا المستقبل، ففي الوقت الذي يكون فيه الهدف التركي إعادة اللاجئين وتبديد المخاوف من حزب العمال الكردستاني، يكون الهدف الأمريكي "فرك إذن" الروس ومحاربة داعش أو المتطرفين، ويعول حجاب على التقارب التركي العربي الذي بدأت بعض ملامحه تبرز مؤخراً كثيراً، على أمل أن تتقارب مصالحهم أكثر وأكثر فيما يريدونه من سوريا.

 لا يدخل "حجاب" في إطار دائرة الوهم التي ينشرها سوريون متحمسون أو متوهمون عن أن الحل هو أن يتواصل السوريون مع بعضهم وأن يحلوا أمورهم بأنفسهم، يدرك الرجل بلغة السياسي أن الجيوش الموجودة على الأرض لم تأت لتقيم نزهة في سوريا أو لتقدم لهم الهدايا، لذلك فإن الحديث عن أي حل لا بدّ أن تقوده وتشترك في مرحلة من مراحلة، الدول الكبرى والدول الإقليمية، مهمة السوريين التقاط البوصلة وتكييفها بما يخدم سوريّاهم. وهو يدرك أن السياسة لعبة شد حبل أحياناً، أو أقرب للسير وسط حقل ألغام أحياناً أخرى، بل نوع من عضّ الأصابع، وتقاطع مصالح دولية وإقليمية وسورية لذلك يحاول أن يبحث في تلك المشاريع الدولية أو الإقليمية عن فرص أن تكون جزءاً من الخلاص السوري، وهو يعي أن الأيادي الدولية التي أسهمت في الوصول إلى المآل السوري لا بدّ من أن تسهم في بلورة حلّ للقضية السورية، ولذلك يجعل مخاطبة السوريين أحد محاور الحوار معه، معوّلاً على الأمل والإفادة من دروس التاريخ، وأن الحق لا بد أن ينتصر ولو بعد حين، مؤكداً أن مكان بشار الأسد ليس القصر الجمهوري بل خلف قضبان السجن ومحكمة لاهاي.

لا ينشغل د.رياض حجاب بالتنظير لشكل الدولة السورية المأمولة، هذه ليست مهمته، لكنه يعلم ماذا يلائم الكثير من السوريين، وما هي أوجاعهم الماضوية، ولماذا ثاروا وما هو حجم الظلم الذي مسهم، بحكم خبرته وتجربته، فهو رجل سياسة خبر العمل التنفيذي ولديه القدرة على تلمس وجع المواطن السوري، وبالتالي ضرورة البحث عن آفاق حل لتلك العقد الإعاقية في الملف السوري، من أجل ذلك فإنه يرسم آفاق عقد اجتماعي سوري جديد يزاوج بين قيم الثورة وشكل الدولة الحديثة الديمقراطية، لنأخذ مثلاً تأطيره لوضع الكرد السوريين، وهو ابن دير الزور الذي يدرك ألاعيب النظام القديمة، إذ حاول هذا النظام اللعب على العلاقة بين "الديريين والكرد" مثلاً، متمثلة في أحداث 2004 حيث كان النظام يحرص دائماً على أن يكون عدد كبير من العاملين في الأجهزة الأمنية بالحسكة، من أبناء محافظة دير الزور، ومعلوم أثر ذلك في إذكاء الكراهية، أمام السمعة السلبية التي يشتهر بها الجهاز الأمني السوري في ظل حكم الأسد الأب والابن، وكيف استطاع النظام وأجهزته الأمنية تكريس فكرتين سلبيتين لدى تلك المجموعتين السوريتين البشريتين عن بعضهما بصفتهما نمطاً وكتلة صلبة: الديريون والفراتيون وعرب الجزيرة صداميون من جهة، والكرد انفصاليون كارهون للعرب، فكيف يعيش البنزين بجانب النار؟ وهل من حدث منتظر غير الحريق؟ بالتأكيد ثمة ميل لدى كثير من الفراتيين عموماً إلى صدّام لاعتبارات عدة أبرزها الشعور بالظلم، الانتماء للمفهوم العشائري ولعبه على وتر البطولة والعروبة، وعدم شعورهم بالمواطنة، وثمة سعي لدى كرد كثيرين للتفكير بالانفصال نتيجة تراكم الظلم وافتقاد الحقوق والتفكير بمخملية الحل القومي والعرقي، لكن الحل ليس بإذكاء النار بين مجموعات بشرية تتعايش في دولة واحدة، بينها قرابة ومصاهرات وجغرافيا وتاريخ ومصالح متبادلة والأهم أنها تنتمي إلى دولة واحدة، الحل بالتوعية لدى كل الطرفين وتنمية حس المواطنة والانتماء للبلد، فصدام كان رئيساً في بلاده، ودولة المواطنة هي التي تلغي التفكير بالانفصال، والدولة القومية فات زمانها!

يقرّ د.حجاب بداية بوقوع ظلم على الكرد السوريين، وأن لهم حقوقاً يجب أن ينالوها، فالكرد السوريون جزء أصيل من المجتمع السوري، أسهموا ببنائه عبر تاريخه، ( استعمل مصطلح الكرد ولم يقل الأكراد نظراً لأنه هذا المصطلح يثير حفيظة بعض الكرد السوريين خشية تحميله دلالة أنهم مجموعة أعراق، وليسوا عرقاً واحداً، يشبه استعمال الصياغة اللغوية: للفرس والعرب والترك). يدعو بشكل واضح لتحديد الموقف من ال بي كي كي لأنه متحالف مع النظام السوري، الذي سلمه مواقع الجيش السوري عام 2012 لتحقيق ثلاثة أهداف: السيطرة على الشارع الكردي، والشارع العربي هناك، وإزعاج تركيا وفقاً لتصريح بشار الأسد نفسه.

 هاهنا يريد د.رياض حجاب القول إن المجلس الوطني الكردي والجناح البارازني والشعب الكردي مرحب بالتواصل والتحاور معه، أما الـ بي كي كي، فالرجل لديه الوثائق والأدلة على وجودهم ومرامهم وعلاقتهم مع النظام، الآن هم موجودن على الأرض ما الحل معهم؟ وكيف يمكن تجسير الهوة معهم؟ كيف يجد السوريون مشتركات معهم؟ في الوقت نفسه هناك إقرار بتعرض أهلنا الكرد السوريين للظلم بسبب النظام وسياساته، وبالتالي لا بد من إعادة حقوقهم، وترتبط هذه النقطة بشكل الحكم القادم، وإمكانية وجود النظام الفيدرالي في سوريا، وهو مرحب به، وفيه الكثير من الخيرات للبلد، فيما لو كانت النوايا مناسبة للفعل، ويمكن الإفادة من قانون الإدارة المحلية الحالي وفقاً لحجاب، بمعنى آخر وبصريح العبارة يقولها الرجل: لا للتقسيم، وهو خط أحمر،  نعم للفدْرلة – بشكل من الأشكال- في حال اتفق السوريون على أنها الحل الناجع للوضع السوري، هذا مقترح عقد اجتماعي جديد يقرره السوريون، يتماشى هاهنا السياسي مع الفكري مع شكل الدولة المأمولة، يمشي رياض حجاب مع أهلنا الكرد خطوة نحو الأمام بهدف الحل وكأنه يقول التالي: هذه بداية تشكل بي كي كي وفقاً ما سمعته من بشار الأسد شخصياً، يحكمهم هم أنفسهم في العلاقة معه، هذه صورته يجب ألا تغيب عن أذهانكم، لكنها يجب ألا تمنعنا من التفاوض معه، أهلنا الكرد لقد وقع عليكم ظلم فترة طويلة يجب إزالته، أنتم جزء أصيل من سوريا وتاريخها، إن كانت الفيدرالية مطلبكم ومطلب السوريين هناك مرحباً بها في إطار دولة سوريا!

هذه المعطيات التي يقترحها الرجل لجزء من المعضلة السورية تعطي مؤشرات على المستوى الأخلاقي لجانب من الخطاب المعارض، وتسهم في سحب الذرائع ممن يريد المزيد من التشتيت للوضع السوري، السؤال المهم من جهة أخرى، ال بي كي كي الآن قوة عسكرية على الأرض كيف له أن يسمع هذا الخطاب ويتقبله ويتحاور معه، أو يوائم ملامح خططه معه أم أنه سيغرق أكثر وأكثر في خياراته التي اختارها؟

يذكر الدبلوماسي والمحلل الهولندي نيكولاس فان دام في سياق حديثه عن الثورة السورية أن طريقها الرئيس للانتصار هو الأخلاق، وبذلك يجب ألا تتشابه مع خطاب النظام الإلغائي أو العدمي، لذلك فإن رياض حجاب في حواره يتعاطف مع جوع أهلنا في الداخل، ويدعو من هو قادر على تخفيف المعاناة عن الأهل هناك، ومساعدتهم، فلا هم بقوا هناك لأن هذا الخيار خيار من جملة خيارات، ولا الذين خرجوا من سوريا اختاروا هذا الطريق بصفته خياراً إرادياً، الجميع يدفع ثمن بطش الأسد ونظامه.

 يتحدث الفيلسوف هابرماس، الذي رفض جائزة مهمة قبل أيام انتصاراً لقيمه الأخلاقية التي يحملها، إلى عدد من سمات الخطاب السياسي الأخلاقي من مثل الشعور بالآخر، والإنصاف وهو ما أشار إليه د. حجاب في سياق الحديث عن الكرد، وكذلك العدالة، سواء أكانت العدالة الانتقالية أم عدالة تقسيم الثروة بين المناطق السورية، ويستمد هذا الخطاب الأخلاقي السياسي أهميته هنا لأنه صادر عن سياسي طوّر تجربته ومعجمه وفكره وكيّفه لينسجم مع الخطاب الأخلاقي الذي يليق بالثورة السورية.

السؤال الذي يبقى مفتوحاً: من سينفذ هذه الرؤية الاستراتيجية السياسية للوضع السوري الذي رسمه د.حجاب في حواره؟ مؤسسات المعارضة؟ أم منظمات المجتمع المدني؟ أم الدول الإقليمية والدولية؟ ومتى وكيف؟ وهل نستطيع تنفيذها كسوريين؟ أثمة لحظة بداية منتظرة؟ أم أنه وضع صيرورة متحول، كل تفصيل فيه وكل فرد وكل مجموعة لها أثرها وفائدتها ودورها؟