نحن وسوريا كلها.. والعدالة الألمانية

2020.05.23 | 23:59 دمشق

06d80b60495143cab60ba2d8b0e0e0f2_18.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا نشأ شاب في بيئة عشائرية، ضعيف التعليم، فإنه سيرى في عادات "الثأر"، مثلاً، أمراً بديهياً من طبيعة الحياة ونواميسها، ولا فكاك منها. إن قيل له أن هذا الفعل جريمة تستوجب العقاب، فستجتاحه صدمة مباغتة وسيرفض هكذا قول جملة وتفصيلاً، لا لتبرئة نفسه وحسب بل لحماية تاريخ أجداده كلهم ودفاعاً عن "هويته" ومنظومته الأخلاقية برمتها.

ثمة أجيال عاشت تحت سلطان استبدادي مديد، متناسل أصلاً من تاريخ عريض لنمط من السلطة الاستئثارية، رسخت في أذهان الجماعات المحكومة تصوراً عن "السياسة" والحكم يجعل السلطة الغاشمة والمخيفة والقامعة والمتجبرة أمراً متعالياً وقدراً محتوماً، وطبيعة ثابتة هي من بديهيات الحياة التي لا تتبدل. ثمة دوماً "أمر" يقابله الطاعة. هذه هي سنّة الحياة ومصائرها. وعلى هذه القناعة الموروثة، عاشت شعوب وفق أخلاقيات ونواميس الخضوع والتسليم والطاعة. فإن قيل لها إن ذلك ظلم وحال غير طبيعي، فستصيبها صدمة تشبه تلك التي أشرنا إليها في مثال ابن العشيرة.

قبل زمن غير بعيد، كان يؤخذ "التعذيب" في المعتقلات وكأنه رد فعل "طبيعي" تقوم به السلطة تجاه متمردين خطيرين. كان العنف اليومي، اللفظي والجسدي بين الناس وفي داخل المنازل نفسها وفي المدارس أو المخافر أو أي مكان عمومي.. يؤخذ بوصفه من بديهيات السلوك البشري بل والمبرر أخلاقياً!

إن نفوري من المسلسلات التلفزيونية العربية (أو حتى المدبلجة) وعدم قدرتي طوال حياتي على مشاهدتها، يعود في جزء منه، إلى فائض العنف اللفظي فيها، إلى احتفائها بالقسوة وإلى تصويرها الحياة اليومية والقصص مفعمة بالكآبة والمآسي والشراسة والفظاظة والتعاسة، بوصفها كلها أمراً بديهياً وطبيعياً.. وهي التي تنظم علاقة البشر في كل دقيقة.

في اللحظات التي ألمحها بين الحين والآخر في تلك المسلسلات، يستوقفني خصوصاً كيف يُنتهك المجال الطبيعي، أو المسافة اللائقة بين شخصين يتقابلان وأنفاهما على وشك التلامس. أو الألفاظ التحقيرية المتبادلة أو الصفعات التي تتلقاها النسوة.. والأسوأ أن علاقات الناس كلها هي عبارة عن مكائد متتالية. الحياة برمتها في تلك المسلسلات عبارة عن كابوس مريع بلا نهاية. أما الأخلاق التي تنظم معظم السيناريوات فهي تقريباً مشابهة لأخلاقيات ونواميس الخضوع والتسليم والطاعة، في نظرة الناس إلى معنى السلطة والتراتبية الاجتماعية والسياسية.

تقدم لنا المحاكمة الألمانية  للعقيد السوري في المخابرات، "المنشق" أنور رسلان، فرصة نادرة لنفهم ما أسميته "الصدمة" الأخلاقية.

ما يستوجب القول هنا، أن مساكنة الشر، أكان العيش على نمط الثارات، أو تحت نير السلطة الغاشمة، أو القبول بالعنف والتعذيب قانوناً وشريعة بين الحاكم والمحكوم، بين كل قوي وضعيف، أو الاحتفاء بكابوسية العيش في "الفن" التلفزيوني العمومي.. هي مساكنة مديدة وراسخة في "ثقافة" الجماعات والأفراد عندنا، على نحو استعصى فيها توطين أخلاق مغايرة، أو تعميم معنى مختلف لمفهوم العدالة.

يمكن اختصار كل ذلك بهيمنة "القسوة" كمرجعية أولى في أخلاق الشر المهيمنة على مجتمعاتنا. هي مرجعية في السياسة (وفي تعريف السلطة)، وفي علاقات البشر بين بعضهم البعض.

تقدم لنا المحاكمة الألمانية  للعقيد السوري في المخابرات، "المنشق" أنور رسلان، فرصة نادرة لنفهم ما أسميته "الصدمة" الأخلاقية. إن مرافعته للدفاع عن نفسه، أظهرت دهشته وحيرته إلى حد إنكاره وجود تعذيب أصلاً في مقر المخابرات السورية. إنه يشعر بنوع جديد غير مألوف عنده من "الشعور بالذنب" تجاه ممارسته التعذيب والقتل، كان يعتبرهما حين كان في سوريا وعاملاً في جهاز المخابرات جزءاً من "وظيفته" اليومية!

حساسية المحكمة هذه أنها "ألمانية"، لما تحمله من صدى في أعماق الوجدان الألماني، يسترجع كما يستأنف مسار الوعي الألماني وأخلاقيته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي محاكمة الشر السياسي، وأيديولوجيا القسوة التي قادت بها النازية ألمانيا نحو اقتراف ما سيُكرس في القانون الدولي بوصفه "جرائم ضد الإنسانية": قتل المدنيين عمداً، التعذيب الممنهج، السخرة، التمييز العنصري، وصولاً إلى الإبادة المنظمة والواسعة النطاق.

من محاكمات نورمبرغ (1945- 1946)، ابتدأت ألمانيا مسار التكفير عن الذنب القومي، مسار التطهر من العار النازي، وتحويل ذلك إلى ضمير دائم، وسياسة مستمرة وواجباً أخلاقياً. ولذا، فمحاكمة رسلان هي "حاجة" ألمانية بقدر ما هي مطلب الضحايا السوريين أنفسهم.

و"الصدمة" التي أصابت رسلان، والكثيرين من السوريين المعارضين ناهيك عن الموالين، ذاك الظن الذي لديهم أن "الانشقاق" يطوي ما قبله ويمحوه، ويمنحه الغفران والمسامحة والبراءة. واستنكار محاكمته "بعد توبته"، إنما مرجعه الظن أن المحاكمة ثأر أو مجرد قصاص. في حين أنها أولاً "البحث عن الحقيقة" وتدوينها، وبقدر اهتمامها بالمتهم تهتم أكثر بالضحايا، لمنحهم "الخاتمة" والإنصاف، ولمنح الناس أجمعين ذاك الحس بالعدالة.

ليست هي محاكمة لشخص رسلان وحسب، إنما هي لآلاف الضباط والعسكريين والقادة الذين كانوا على منواله، "موظفين" يؤدون عملهم اليومي ويتدبرون أخلاقهم وضمائرهم بذريعة وحيدة في التعذيب كما في القتل وفي كل شر وقسوة مارسوها: "إنما أنا أنفذ الأوامر". ذريعة للتحلي بالبراءة!

المهزلة التي أحاطت محاكمات حسني مبارك، هي التي أتاحت لنظامه أن يتجدد وليقترف مهزلة أفدح وأقسى مع محاكمة محمد مرسي.

إن جزءاً مهماً في أسباب انحطاط أحوال مجتمعاتنا ودولنا، واستعصاء "الطمأنينة" بل وشعورنا اليومي بالظلم واليأس، مرده إلى عجزنا عن إقامة هكذا محكمة ألمانية عندنا. لقد فاتت على الشعوب العربية فرص تاريخية للمراجعة والمحاسبة ولتدوين الحقيقة وإنجاز أي إنصاف. المهزلة التي أحاطت بمحاكمة صدام حسين، وقد تحولت إلى عملية ثأرية مفعمة بالانتقام الطائفي، حرمت العراقيين من مثال حقوقي وسياسي وأخلاقي كان يمكن البناء عليه لعراق مختلف. لكن "حفلة الإعدام" التي طغت عليها الغرائز، كانت أشبه بتكرار لواحدة من جرائم نظام صدام حسين نفسه. غرائز سرعان ما باتت هي نفسها متحكمة بحال العراق حتى اليوم، وبدلاً من صدام حسين واحد.. سنرى آلاف الصداميين يتحكمون بالعراق. والأمر نفسه تكرر مع الديكتاتور السادي معمر القذافي. واستمر القتل في ليبيا على منوال سلوك القذافي وأخلاقه.

المهزلة التي أحاطت محاكمات حسني مبارك، هي التي أتاحت لنظامه أن يتجدد وليقترف مهزلة أفدح وأقسى مع محاكمة محمد مرسي. ضاعت الثورة المصرية في لحظة حرمانها من محاكمة النظام، ومحاكمة تاريخ السلطة.. لقد تمت مصادرة الحقيقة وطمسها.

حتى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي أنشأتها الأمم المتحدة "كي ينتهي زمن الإفلات من العقاب"، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اضطرت أن تتنازل في نهاية المطاف عن طموحها في الحقيقة والعدالة، وتحصر مهمتها بمحاكمة أفراد على المعنى الجنائي.. فقط تحاشياً لـ"حرب أهلية"!

محاكمة رسلان وأمثاله، إنما هي محاكمة لأنفسنا، لـ"ذنبنا القومي" ولعارنا السياسي المديد ولشرور نظامنا الأخلاقي. هي تعويض رمزي أو علامة لمستقبل مأمول، في تنصيب محكمة "نورمبرغ" جديدة في سوريا نفسها.

كلمات مفتاحية