مَكَبّ نفايات البديهيات

2020.09.04 | 01:02 دمشق

hafz_alasd_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين حكم البعث سوريا لم يكن له محبُّون عاشقون، إلا بما يُعدُّ ضئيلاً قليلاً. ولم يكن له مريدون مؤمنون به ذلك الإيمان العميق الراسخ. هذه المنطقة كلها، منطقة الشرق الأوسط، لم تشترط يوماً على من يريد الاستيلاء عليها أو أن يحكمها، شرطاً أساسياً؛ أن "تؤمن" به أو أن تحبه. حين حكمها الأمويون قريب قرنٍ من الزمان، وتمددوا لقريبٍ من ربع اليابسة الممتدة على سطح الأرض، (اليابسة المكتشفة حتى ذلك العصر)، لم يفكروا أو يكترثوا بمن "يؤمن" بأمويتهم، ولا بمن يحبهم ويكرههم. وحين حكم العباسيون خمسة قرون ونصف تقريباً، وورثوا تركة ما أورثهم الأمويون من تاج ملك وأرض، لم يكن الناس عاشقين ولا مؤمنين بأولئك الدعاة السريين، المختبئين خلف كنى وألقاب ورايات لم يسمع بها أحد.

وحين وصل الفاطميون إلى مصر، قادمين من غربي شمال أفريقيا، وحكموها لقرنين ونصف، لم يكن ثمة فاطمي واحد في مصر كلها، ولا كان ثمة مصري واحد قد سمع بهم، وبدعوتهم الغريبة والجديدة عليهم. ولم تكن "مصر المحروسة" محروسة إلا بإلهام أبنائها وصبرهم وقدرتهم على امتصاص الغرباء والطارئين، كما امتصوا من قبل الهكسوس والبطالمة والرومان. كذلك لم يكن الفاطميون ـ الغرباء عن الأرض ـ قد بدؤوا بالتمييز الدقيق بين الوجه القبلي والوجه البحري، ولا بين الأقصر والدلتا. ولا كانوا يعرفون الجهات كثيراً في وادي النيل. ولا كان مستبيناً لهم فرق المسافة بين الإسكندرية والنوبة.

وحين توجه صلاح الدين إليها بعد قرنين ونصف، كان مجبراً مُكرهاً هو وجنده، على دخولها تحت طائلة تهديدات وإكراهات السلطان نور الدين محمود الزنكي. يقول مؤرخو حقبته: (كان يسير بجنده إلى مصر، وكأنه ربط بسلاسل، فهو يجرُّها جراً في سفره إلى مصر). وما خطر ببال حامية قتالية صغيرة أنها سوف تستولي وتحكم مصر، ثم تتمدد نحو السودان جنوباً، ثم تدحر الصليبيين، غزاة الخارج الجغرافي، وتستولي على الشام والعراق وأجزاء من خراسان والأناضول، شمالاً وشرقاً، ليغدو الجندي المقاتل ـ الذي لم يكد قد سمع به أحد من قبل، إلا أقل القليل، حتى بين صفوف الجيوش الزنكية ـ السلطان الناصر صلاح الدين، أعظم سلطانٍ تولى حكم بلاد المسلمين، وليحكم أكبر رقعةِ جغرافيا واسعة في الشرق الأوسط كله.

وحين وصل تنظيم داعش الإرهابي المتوحش، إلى الجزيرة السورية، وقرر أن يؤسس عاصمته في محافظة الرقة، أقبل بخَيْلِه ورَجِلِه، ورشاشات الدوشكا وبيكابات التويوتا الرباعية الدفع، ولم يكن في المحافظة التي كان في مخططه أن يستقر فيها آنذاك، وأن تصبح مركز دولته المزعومة، واحد من رعايا الدولة قد سمع بالتنظيم، أو بتلك الأفكار الهذيانية والإيديولوجيا المستنفِرة الجنونية، التي حملها جند الخلافة العابرون للحدود، ولا سمع بخليفتهم الذي لم يشاهدوا صورته أو يتعرفوها إلا بعد أن شاع الإنترنت، وانتشر الفيس بوك كالنار في مواقد الشتاء البارد.

اليوم يتكرر التاريخ في منطقة الجزيرة الفراتية، حيث مهدت آلة الحرب المتقدمة للولايات المتحدة، سبل الحكم والتحكم بكل مفاصل المحافظات الشرقية لتنظيم PYD، الذي جاء هو الآخر من خارج المنطقة، وتمت زراعته كنسيج عضوي في منطقة لا تكاد تستوعب شيئاً مما يقول أو يفعل. والتاريخ ينطق بأن دورته هي هي، لم تكد تتغير: "لا أريد منكم أن تحبوني ولا أن تؤمنوا بي. الشرط فقط أن تخضعوا لي". وهذا كل شيء.. (ومن كان يؤمن ببشار الأسد من السوريين، حين تمت توليته وريثاً لحكم سوريا، بديلاً عن أبيه؟ وكم كان عدد المؤمنين به حتى داخل عائلة الأسد نفسها؟).

الغالب الوافد من الخارج مزهوٌ بنصرة الأقوياء والأغنياء في هذا العالم، والمغلوب هو ابن البيئة والمنطقة

هذا العود الأبدي للتاريخ، يوحي وكأن ثمة شيفرة سرية، زمانية ومكانية، اقتصادية واجتماعية، تم التفاهم عليها بصمت بين الحاكمين والمحكومين، بين المسيطرين والمغلوبين، شيفرة قلما قرأها أحد الطرفين بعناية؛ الغالب الوافد من الخارج مزهوٌ بنصرة الأقوياء والأغنياء في هذا العالم، والمغلوب ابن البيئة والمنطقة، الذي يعرف ما هو جدير به، وكيف يفعل ويتفاعل ويتكيف مع الوضع الجديد، الذي ما خطر له يوماً على بال.

أقول: تلك الشيفرة السرية قلما قرأ شروطها أيٌ من الطرفين، لكن الطرفين كليهما، الغالب والمغلوب، يعلم أنها مؤقتة. لها أولٌ وآخر، ولها بداية ونهاية. وكما لا يعلم المريض المتجلبب بالضمادات شيئاً عن حدود الطب، ودقائق الألم وكثيرٍ من مسبباته، ومتغيرات أحوال المرض، سوى أن لتلك الضمادات التي تلفه عمراً ومدة لها حسبان. فهو أكيد من سؤالٍ يسأله في السر أو في العلانية: أيان وحتامَ.. وحتى متى..؟ وذلك مبلغ علمه اليقيني من كل ما يدور حوله.

فالتاريخ ليس محدوداً بالمصلحة والنوايا، وحسابات البيدر وظروف السوق فحسب. بل يتداخل فيه خبرات الخلاص ووصفاته ونواياه المبطنة، والإلهام والوحي الباطني العميق، الذي تحكمه الظروف وموازين القوى والمتغيرات على الأرض؛ تلك المتغيرات التي لا تكاد تُلحظ بعناية مراقب، ولا بسعي مخططات ذكية ومستوفية.

الثورة الفرنسية التي قلبت التاريخ رأساً على عقب، لم يكن ليؤمن بها عشية انطلاقها أكثر من 3 % من الفرنسيين. كذلك حال الثورتين البلشفية والصينية. والفيتناميون كانوا آخر شعب على ظهر الأرض، يُتوقع منه أن يصمد في وجه آلة العسف لأعتى قوة بشرية معترف بها في العالم. لا أن يصمد سنوات فحسب، بل أن يُمرِّغ أنف الطغاة على أرجل أطفاله ونسائه ومستضعفيه، وأن يهزمهم ويفتح بوابات الحرية المطلقة، ويحطم أوثان الاحتلالات المتعاقبة والمستغلقة.

ليس هذا تفاؤلاً مجانياً لا يسنده الواقع أو يشير إليه. فهنالك دائماً مكر التاريخ ومكر الجغرافيا. وأسرار الشعوب وخططها الدفينة التي لا تبوح بها. حيث يُرمى في المكبَّات، نفايات البديهيات والمفروغ منه، التي عاشت الأجيال عليها كاستحالات مطلقة، بعد أن يبست وشاخت وضمر عودُها وماتت، لتنمو بدلاً عنها في لحظات غير المحسوب، بديهيات جديدة، تثمر وتنتعش، لتخيط من إبرة اليأس ثوباً لواقع ووقائع جديدة.