ميشيل كيلو منارة السوريين الأخيرة

2021.04.19 | 15:33 دمشق

photo_2021-04-19_15-15-51.jpg
+A
حجم الخط
-A

رحل ميشيل كيلو وترك خلفه فراغا كبيرا في حياة السوريين. رحيل ليس مثل أي رحيل آخر، بل هو رحيل الخسارة  القاسية التي تقع مثل زلزال بقوة عالية. لحظة رحيل كيلو تشبه الفشل في دخول دمشق وإسقاط النظام، وهي مثل خروج الثورة من مدينة حلب الذي أسس للانهيار اللاحق. عشنا لمدة شهر على أمل أن يتجاوز كيلو الوضع الصحي الصعب ويعود معافى. فسوريا بحاجة إلى هذا الرمز أكثر من أي وقت مضى. هو من بين قلة من الرجال والنساء الذين يمثلون رأس المال الرمزي للسوريين.
تاريخ كيلو هو تكثيف حي ودقيق لمسار المعارضة السورية بأبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية، وتجربته تتقاطع في صورة واضحة مع الخط البياني لحركة المجتمع السوري منذ تسلم حزب البعث السلطة سنة 1963. ماركسي وعروبي، إصلاحي وجذري، وسطي ومتطرف، مناور ومبدئي. يعيش داخل السياسة بمعناها الكلاسيكي ويحيا تمظهراتها وتقلباتها من موقع المثقف العضوي الذي ميزه غرامشي عن بقية أصناف المثقفين، من خلال اعتناقه لثقافة المعنى. صاحب دور لا يجلس في برج عال ليراقب الشارع، يسير أمام الجماهير ماداً لها يده كما يقول بريخت. ومن بين قطاع واسع من المثقفين السوريين الكبار، انحاز كيلو إلى السياسة ببعدها اليومي، ولم يعتكف بعيداً ليتفرغ للتنظير، رغم أنه لا يقل جدارة عن رفاق مفكرين عاصرهم وعايشهم وصادقهم مثل ياسين الحافظ وإلياس مرقص. لذا، بقي أقرب إلى محترف السياسة بمعناها السياسي المباشر من أمثال رياض الترك، رغم أنه لم يمكث طويلاً في تجربة العمل الحزبي، حيث بدأ مشواره شيوعياً، ومن ثم انتقل إلى الضفة الأوسع التي تكونت بفضل عملية التحول والنقد والمراجعة التي قام بها الترك للحركة الشيوعية السورية الرسمية، وأدت إلى انشقاق الحزب الشيوعي السوري إلى حزبين: التيار الأول ظل سوفياتياً وقريباً من السلطة يقوده خالد بكداش، والتيار الثاني عربي قاده رياض الترك، وانخرط في صف المعارضة الجذرية منذ سنة 1973 حينما رفض المشاركة في الجبهة الوطنية التقدمية التي ألّفها النظام من عدة أحزاب بقيادة حزب البعث الذي خولته المادة الثامنة في الدستور "قيادة الدولة والمجتمع".
كلما تأزم الوضع السوري، كان موقف كيلو جديراً بالنظر ومحط اهتمام، لأنه "باروميتر" لمن يريد أن يقرأ درجة حرارة ومستوى الضغط لدى السلطة والمعارضة على السواء. اعتادت السلطة اعتقاله في كل مرة شعرت فيها بأنه تجاوز الحدود، أما هو فقد درج على الذهاب نحو الحد الأقصى كلما رأى أن اللحظة السياسية تقتضي المواجهة. وهنا يجدر التوقف أمام مشهدين رئيسيين في تجربة كيلو: الأول هو اعتقال كيلو في غمرة مواجهة السلطة مع الإخوان المسلمين في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وفي حينها لم تتورع الأجهزة الأمنية عن نسبه إلى الإخوان المسلمين. ولمن لا يعرف تاريخ تلك الحقبة، كان ذنب كيلو الرئيسي هو صرخته الشهيرة بأن "الوطن في خطر"، وكان رأيه أن مصدر الخطر يأتي من طرف السلطة أولاً، لأنها مارست لعبة العنف. وغني عن القول أن السلطة كانت تنتظر منه موقفاً يدين الإخوان المسلمين فقط. والمشهد الثاني هو اعتقاله في سنة 2006، وبررت السلطة سجنه لمدة ثلاث سنوات على خلفية توقيعه لبيان "إعلان دمشق بيروت" الذي صدر في أيار 2006، ممهوراً بتوقيع مجموعة من المثقفين السوريين واللبنانيين، وحمل نظرة مشتركة إلى نوعية العلاقات بين الشعبين السوري واللبناني، التي ساءت كثيراً بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وفي حقيقة الأمر، لم يكن ذلك هو السبب الوحيد لاعتقاله، وربما كان القطرة التي جعلت الكأس يطفح، والسبب هو مواقفه بعد ختم تجربة "ربيع دمشق" بالشمع الأحمر سنة 2000، وثارت السلطة على كيلو على إثر نشره لمقال في 2006 تحت عنوان "نعوات طائفية"، جرى النظر إليه على أنه تحريض طائفي، وانعكس ذلك من خلال الردود والانتقادات التي نالها من طرف كتاب الحكم، وكلها دارت من حول رمي كيلو بتهمة الطائفية التي وجدت لها السلطة صيغة غريبة "إضعاف الشعور القومي والنيل من هيبة الدولة وإثارة النعرات المذهبية".
كيلو، وفي مقالة له بعنوان "قصة اعتقالي واتهامي"، كتبها وهو في السجن يقول: "واليوم، وبعد سبعة أشهر على وجودي في السجن، أراني أتساءل: هل صحيح أنه تم توقيفي بسبب إعلان دمشق بيروت، لا، ليس إعلان بيروت/ دمشق سبب اعتقالي. هذه قناعتي... وإذا كان هناك من يريد الانتقام مني...؛ فإنني أتفهم موقفه وإن لم أقبله، مع رجاء أوجهه إليه هو أن يمتنع عن وضعه تحت حيثية القانون والقضاء، كي لا يقوض القليل الذي بقي لهما من مكانة ودور".
الجانب القاسي من تلك التجربة يتمثل في أن كيلو جرت محاكمته أمام المحكمة العسكرية. وفي أيار 2007 أصدرت عليه حكماً بالسجن لمدة ثلاثة أعوام بعد إدانته بـ"نشر أخبار كاذبة وإضعاف الشعور القومي والتحريض على التفرقة الطائفية".

ليس هناك من يعوض غياب ميشيل كيلو في الخارج ولا في الداخل، هو علم بين الأجيال كافة.
مشروع ديموقراطي عروبي وطني تقدمي، رائحة ياسين الحافظ وإلياس مرقص وجورج طرابيشي مؤسسي الفكر السوري الجديد. الفكر المعارض النقدي بعد عقود من التنظير الماركسي الدوغمائي الغوغائي الستاليني، والقومي البعثي العاطفي والعنصري في بعض الأحيان. وجاء هؤلاء من قراءة عميقة للفكر النقدي العالمي المتحرر من سطوة المدرسة السوفياتية، والمنفتح على القراءة الجديدة في أوائل سبعينيات القرن الماضي مع روجيه غارودي (واقعية بلا ضفاف) والشيوعية الأوروبية التي مثلها الحزب الشيوعي الإيطالي وتبعه الإسباني والفرنسي. 
مع رحيل ميشيل كيلو يفقد السوريون واحدا من الأعمدة القليلة التي كانوا يتكئون عليها في السراء والضراء، حين يفرحون وعندما يبكون. هو منارة عالية وبوصلة وطنية ليس لسوريا فقط، بل كان يرى ويقّدر أهمية التقاطعات في الإقليم، ما بين سوريا ولبنان وفلسطين والعراق ومصر. يدرك العلاقة بين الديموقراطية ومحاربة الاحتلال والاستيطان، والأطماع الأجنبية في العالم العربي الآتية من الشرق والغرب معا.