ميشيل كيلو.. محطات

2021.04.23 | 07:08 دمشق

000_dv1212979.jpg
+A
حجم الخط
-A

أول مرة سمعت توصيفاً لأزمة النظام السوري بأنها "بنيوية" كانت من الأستاذ ميشيل كيلو، في سنة 1979، في اجتماع للكتاب والأدباء مع بعض قيادات النظام والجبهة الوطنية التقدمية، وسُرِّبَ شريط كاسيت يتضمن مداخلات المشاركين بأصواتهم. يومئذ صار الناس يتداولون ذلك الكاسيت، في السر، كما لو أنه أفيون أو أفلام ممنوعة.

كان في الاجتماع، على ما أذكر، صحفي اسمه "علي المصري" قال إن زوجته الواقفة وراء غسالة الفريسكو أوصته بألا يتكلم شيئاً يزعج السلطة في الاجتماع، لكي يرجع إلى أولاده سالماً، والراحل أبو زياد ممدوح عدوان تحدث عن كذب الإعلام السوري الذي وصل إلى حد إخفاء الكوليرا، والتضليل في النشرة الجوية، وقد لفت نظري، يومئذ، أن ميشيل كيلو، يتحدث بصوت نحاسي، جهوري، جذاب، وبطلاقة تدل على امتلائه بالوعي، والمعرفة، والثقافة، فراح يغرف - كما يقول النقاد القدامى - من بحر.

أنا، محسوبكم، لم أقترب، خلال حقبة حافظ الأسد الدموية، من السياسة بمعناها المباشر، أي أنني لم أنتسب إلى حزب أو تكتل أو تجمع معارض، منعني من ذلك أمران، أولهما الخوف، وهي حالة نفسية عامة لازمت السوريين منذ انقلاب حافظ الأسد 1970)، والثاني انشغالي بالكتابة الأدبية والصحفية.

 

مرحلة البيانات الشجاعة

في النصف الثاني من سنة 2000، بدأ في سوريا حراك سياسي، وطني، ديمقراطي، غير مسبوق، ذلك أن بشار الأسد الذي ورث السلطة عن والده، بموجب خطة عسكرية أمنية سلطوية محكمة، راح يبحث عن شيء من المشروعية لسلطته، (أو ربما كان هذا جزء من خطة التوريث) فبدأ عهده بشعارات الانفتاح، واضعاً في الواجهة كونَه طبيباً، ومتعلماً في معقل الديمقراطية الأوروبية "بريطانيا"، وأنه يتبنى العلم والمعلوماتية، ففتح، بذلك، ثغرة في جدار سلطة والده الكتيم، سرعان ما اندفع من خلالها المناضلون المعارضون القدامى، ومنهم، بل وفي مقدمتهم، الأستاذ ميشيل كيلو، وخلال شهرين من اكتمال مخطط التوريث القذر، وبالتحديد يوم 27 من أيلول، فاجأت الشخصياتُ السورية اللامعة، الوازنة، السلطةَ والمجتمع وشراذمَ القوى السياسية الموجودة قبلاً، بإصدار بيان شجاع، عُرف باسم "بيان الـ 99"،  طالب فيه الموقعون بإنهاء العمل بقانون الطوارئ، المعمول به منذ 1963، والعفو عن السجناء السياسيين، والسماح للمبعدين والمنفيين بالعودة للبلاد، وتوفير حماية قانونية لـحرية التعبير والتجمع والتظاهر والاحتجاج.     

وبما أن العقابيل الأمنية للبيان المذكور لم تكن قاسية، واكتفت الأجهزة الأمنية السرطانية بوضع علامات حمراء وسوداء على أضابير الموقعين، فقد ارتفعت وتيرة الحراك، وقدم الأستاذ رياض سيف، وكان يومها عضواً في مجلس الشعب، فكرة تشكيل جمعية تحمل اسم "المجتمع المدني"، وكان ميشيل كيلو في مقدمة الداعين إلى هذه الجمعية، والساعين لإنجازها، وقدم ورقة عمل تأسيسية، بالإضافة إلى ورقة رياض سيف، وبعد مداولات عديدة، ودخول شخصيات وازنة أخرى على الخط، صدر بيان "لجان إحياء المجتمع المدني"، وعُرف باسم بيان الألف (وكنتُ، أنا محسوبكم، واحداً من الموقعين عليه)، وهذا البيان أثار خوف السلطة بشكل غريب، لأنه افْتُتِحَ بهجاء مقذع لعهد حافظ الأسد، ولأن عدد المتجرئين على التوقيع تضاعف عشر مرات عن سابقه، ولأنه وسع قائمة المطاليب.

ومما يرويه الصديق وائل السواح، في مقالة نشرت على موقع تلفزيون سوريا (11 تموز 2018)، عن كواليس هذا البيان، أن رياض سيف اقترح على زملائه استمزاج رأي السلطة قبل إصدار البيان، وحمله ومضى به إلى عبد الحليم خدام، وهو مدافع شرس عن سلطة الأسد الديكتاتورية ومساهم في صناعتها، فلما قرأ ملخص الفكرة امتقع لونه وقال: هاي مو جمعية، هادا بلاغ رقم واحد لانقلاب على السلطة! وأما ضابط المخابرات بهجت سليمان فقال إن منظمات المجتمع المدني وسيلة وغطاء لأنشطة المنظمات الماسونية العالمية.

 

نعوات سورية وبيانات أخرى

في سنة 2006، قال مسؤول أمني رفيع لميشيل كيلو، بحسب ما روى ضمن مقابلة أجرتها معه فرانس 24، (برنامج "ضيف ومسيرة"): وضعك الأمني صعب، وصار لازم نعتقلك. وميشيل، كعادته، لم يهتم للتهديد، ولم يتوقف عن إظهار هواجسه المتعلقة بحب سوريا، والتفكير بقضاياها، وبمصادفة غريبة، كان يتمشى في شوارع مسقط رأسه اللاذقية، ومن وحي مشاهداته على جدران المدينة، كتب مقالة بعنوان "نعوات سورية"، لخصها، ضمن مقابلة فرانس 24 نفسها، بقوله إن معظم نعوات أهل الريف كانت لضباط كبار في الجيش، ونعوات أهل المدينة لأناس يسبق أسماءهم لقب (الحاج)، وهذا يعكس، بصورة غير مباشرة، انقسام المجتمع السوري بين عسكر ومتدينين.. وقد أثارت المقالة حفيظة عسكر السلطة، ووجهوا لميشيل تهمة إضعاف الروح القومية وإثارة النعرات الطائفية.

 

اعتقال 2006

ويبدو أن المقالة لم تكن كافية لاعتقال الأستاذ ميشيل، فانتظروا حتى صدر "بيان بيروت دمشق"، الموقع من نحو 300 مثقف سوري ولبناني، وملخصه أن الشعبين السوري واللبناني بريئان مما يفعله ساستُهما، ولا يتحملان تبعات ما يجري، وهنا كان لا بد من اعتقاله.

 

شهادة

تقول ماري سورا، أرملة الرهينة لدى النظام "ميشيل سورا" صاحب كتاب "سورية الدولة المتوحشة"، إنها لا تتصور أن يكون هناك أي مستقبل لسوريا دون أن يكون ميشيل كيلو جزءاً من ذلك المستقبل.

وهذا صحيح بالطبع، فميشيل بقي دائم الحضور في كل الأحداث السياسية التي عصفت بسوريا حتى يوم وفاته في 19 من الشهر الجاري.

 

لقاء في دمشق

عن أول لقاء جمعني بالأستاذ ميشيل كيلو، أذكر أن صديقنا الفنان عبد القادر عبدللي دعانا، بعد انطلاق الثورة سنة 2011، إلى عشاء في مطعم "أبو أمين الحموي" بحي التجارة. وكان عبد القادر صديقاً للأستاذ ميشيل، وكان يتصل ببيته ويسأل عنه عندما كان في السجن. سألته: أيش رأيك ندعي أبو أيهم؟ تحمس للفكرة، واتصل به، ودعاه، فلبى، وجئنا إلى المطعم.

خلال الجلسة، لم يبق أحد في المطعم إلا والتفت نحونا، (صرنا فرجة على حد تعبير أهل إدلب)، وكان سببُ دهشة الحاضرين، بحسب ما فسرناها، تساؤلين: الأول كيف نجرؤ نحن الذي لا يعرفون من نكون على مجالسة هذا المناضل العنيد في مكان عام؟ والثاني أننا كنا نسأل ميشيل عن رأيه بالأحداث المتلاحقة، وهو يقول رأيه، بصوته الجهوري، ودون أن يكترث بشيء.

رأي

انتقد الأستاذ ميشيل نظام الأسد، وحاربه، ومسح به الأرض، طوال عمره، من موقع الإنسان الوطني الديمقراطي.. وقد كان بودي لو أنه خصص جانباً مهماً من شغله لنقد الثورة، وهو العارف بخباياها وملابساتها ومآلاتها خلال عشر السنوات الماضية، ومن موقع الإنسان الوطني الديمقراطي نفسه.