موقف من بعض أسئلة النهضة

2020.06.10 | 00:00 دمشق

330987926_ea7cd279a7.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما تكون أمة ما في حالة فوات حضاري كالأمة العربية، بعد أن كانت قبل قرون صاحبة حضارة متقدمة ومبدعة، بالقياس إلى عصرها – حضارة شاملة لشتى مجالات الحياة من علم ودين وفلسفة وفن، فضلاً عن العلوم المتخصصة، مثل علوم (الصنعة والهيئة) والطب والملاحة والحساب والهندسة والفلك والجغرافيا والفلاحة وغيرها كثير – فإن بعض المثقفين المنتمين إلى هذه الحضارة الآفلة سيتساءلون – وهو ما فعله المثقفون العرب - عن الأسباب التي جعلت أمتهم تنحط عن رتبتها الحضارية السابقة من جهة، كما تساءل غيرهم، من جهة أخرى، عما ينبغي حشده من الأفكار والوسائل والطرائق والموارد الضرورية، التي قد يفضي استخدامها إلى تخطي (الوهدة الحضارية) التي انحطت إليها الأمة، على المستويات الثقافية والعلمية والأخلاقية والسياسية، الناجمة أساساً عن انطفاء جذوة الإبداع الذي تموت الحضارة بموته بكل تأكيد. فما من شك في أن تباطؤ الإبداع أو ضعفه لدى الأمم المتحضرة دليل أكيد على أن (الركود الحضاري) هو المصير التاريخي لهذه الأمم.

ومن الضروري أن نبين أن هذا الوعي الدقيق – والذي من الممكن وصفه أيضاً بأنه وعي مأساوي أو تراجيدي – الذي عبر عنه المثقف العربي في منتصف القرن التاسع عشر، وهو يتأمل ما آلى إليه وضع العرب من انحطاط وتدهور، ما كان لمثل هذا الوعي أن يتبلور إلا بعد أن دوّت في مطلع القرن الثامن عشر أصوات القذائف النابلونية في سماء مصر مبشرة بقدوم الحملة الفرنسية في إطار التنافس الاستراتيجي بين القوى الاستعمارية للسيطرة على أهم طرق المواصلات في العالم القديم. ومن المعروف للجميع أن هذه الحملة كانت تستهدف قطع طريق الهند على (إنكلترا)، بالإضافة إلى السيطرة على الشرق الأوسط، وهو مالم تستطع هذه الحملة إنجازه عندما ارتدت عن أسوار عكا، فكان ذلك هو الفصل الأول في فصول هزائمها التي انتهت بالرحيل عن مصر.

غير أن فشل هذه الحملة على مصر في تحقيق أهدافها بالنسبة للفرنسيين لم يمنع من أن تكون الحملة نفسها نافعة للمصريين والعرب على حد سواء. فقد بدأت العيون والعقول نتيجة لما اطلع عليه المصريون من ضروب التقدم العلمي والحربي وأساليب الإدارة الحديثة - وهو ما كان مجهولاً تماماً بالنسبة لهم بسبب ما فرضته (الدولة العثمانية) من عزلة تامة على ولاياتها العربية – بنقد ما انتهى إليه العرب من تخلف شامل وعزلة تامة عن أنوار العقل وأساليب الحياة الحديثة، وسيادة التقليد والجمود على حياتهم قبل قرون من ذلك.

الذين تساءلوا عن (الأسباب التي أدت بالأمة إلى الانحطاط عن رتبتها الحضارية السابقة) انطوى سؤالهم – ضمناً – على عدة افتراضات مسبقة

وفيما يتصل بأسئلة المثقفين العرب التي طرحت في تلك الآونة – وهي موضع اهتمامنا الرئيس – فمن الواضح هنا أننا بإزاء سؤالين مختلفين كل الاختلاف، ومتباينين أشد التباين. وما من شك في أن اختلاف الأسئلة وتباينها من شأنه أن يعقّد الحوار لاحقاً بين المتحاورين، بسبب تعدد الأنظار، وتباين المرجعيات التي تستند إليها الأسئلة، وما يرتبط بذلك من افتراضات مسبقة قائمة – على نحو ضمني – في صميم الإجابات المحتملة على كل الأسئلة التي انشغل بها المثقفون العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى أيام الناس هذه. ويبدو أن ما فات معظم المتحاورين نجم عن أوهام من نسج خيالهم تضمنتها الإجابات التي قدموها بوصفها إجابات محتملة على ما تم طرحه من أسئلة.

فالذين تساءلوا عن (الأسباب التي أدت بالأمة إلى الانحطاط عن رتبتها الحضارية السابقة) انطوى سؤالهم – ضمناً – على عدة افتراضات مسبقة: أولها أن (العلة الواحدة) التي يفترض أنها قد أنتجت (المعلول) في ظروف تاريخية معينة ستنتج (المعلول نفسه في ظروف تاريخية مختلفة)، مع أن هذا الأمر لا يزيد عن كونه مجرد (افتراض متعلق بالرغبة) بأكثر مما هو متعلق بالحقيقة والواقع.

فإذا سلمنا بأن تبني العرب للإسلام قبل أربعة عشر قرناً قد أدى إلى نجاحهم في إنتاج (حضارة زاهرة)، فليس ثمة ما يسمح بالاستنتاج بأن تبني العرب للإسلام من جديد في ظروف تاريخية مستجدة، وفي ظل مستويات مختلفة جد الاختلاف عن تلك التي كانت سائدة في العالم سيفضي بالضرورة إلى أن ينتج الإسلام حضارة من جديد، أو ما إن كان تبني الإسلام سيكون سبباً في انبعاث أمواج من العنف والإرهاب قد تمثلت هذه المرة في القاعدة والدولة الإسلامية وتنظيم النصرة.

في هذه الحالة، نحن بإزاء ارتباط وهمي، لا دليل عليه بين (الحتمية) وبين احتمال مشكوك في صحته، بين الزعم بأن تكرار (العلة) سيفضي إلى ظهور (المعلول نفسه) أو (المعلول) الذي سبق له أن وقع فعلاً. وما نحن بصدده هنا ليس سوى رغبة إنسانية منطوية على قدر هائل من الميل إلى تفادي المواجهة مع ما يترتب من حقائق ونتائج قد أفرغت (العلة) المنشودة من كل فاعليتها المتوهمة في الظروف الجديدة للحياة الإنسانية، داخل كوكب قد تمت صياغته من جديد، انطلاقاً من الاشتراطات التي أنتجتها الصراعات البشرية على امتلاك القوة من خلال فرض الأقوياء لتصوراتهم على التاريخ، مثل ما كان عليه الحال دوماً. ودأب المهزوم دوماً الفزع إلى أوهام يصنعها العقل مفادها أن (التكرار ممكن). فيقال: (ما صلح به أمر الأمة أول مرة يصلح به شأنها مرة أخرى).

وفيما يتعلق بالتساؤل عما ينبغي حشده من الإمكانات والموارد، التي من شأنها أن تفضي إلى تخطي (الوهدة الحضارية) التي انحطت إليها الأمة، فغالباً ما قصد بها الإشارة إلى ما تمكن الغرب به من امتلاك زمام القوة في صورة (تقدم تاريخي) على المستويات كافة، مكّنه من تخطي ظلامية العصور الوسطى من ناحية، ومكّنه، من ناحية أخرى، من بسط سلطانه على العالم. وقد تجسد هذا السلطان من خلال ثقافة وحضارة مركزها قائم في حق الإنسان أن يفرض سلطانه على العالم – بالمعنى الواسع لكلمة العالم – من خلال ابتكار العقل للتصورات والمفاهيم الذهنية والفلسفية والوسائل المادية التي من شأنها بسط سلطان هذا الإنسان – مبدع هذه الحضارة الجديدة – على العالم بأسره.

وهنا لا نستطيع أن نتبين أي فارق جدي في مضمون التفكير، وليس في صورته فحسب، بين من سلموا بأن تبني الإسلام من جديد سيفضي إلى صلاح العرب والمسلمين،لأنه به صلح حال أولهم، وبين من يقولون: إن تبني مبادئ الحضارة الغربية ونتائجها من شأنه أيضاً أن يَصْلُحَ به حال العرب الراهن، وأن ينتقلوا من هذا الصلاح إلى منافسة هذه الحضارة ومقارعتها بأسلحتها ذاتها، فقط لسبب واحد هو أن هذه المبادئ قد أفضت إلى نجاح الغرب، حقاً وفعلاً، في السيطرة على العالم، وغزوا أبعد نقاطه على الأرض فضلاً عن أنه قد أصبح السبيل مفتوحاً أمام هذه الحضارة لأن تقدم لنا شروحاً مختلفة ، كل الاختلاف، عما فهمته البشرية حتى اليوم عن السماء والفضاء.

ومن البين هنا أننا بإزاء تصور مماثل للتصور الأول، القائم على التسليم بضرب من (الحتمية) التي ستفضي إلى إنتاج (المعلول) نفسه، بمعنى أن العرب سينتجون نسخة جديدة من الحضارة الغربية، إن هم تبنوا مبادئ هذه الحضارة. ولا يزيد هذا عن كونه وهماً شبيهاً، بل مطابقاً للوهم الأول القائل: إن تبني العرب للإسلام من جديد سيفضي إلى صلاح أحوالهم كما صَلُحَ به أحوال أسلافهم.

لا نستطيع أن نتبين أي فارق جدي في مضمون التفكير، وليس في صورته فحسب، بين من سلموا بأن تبني الإسلام من جديد سيفضي إلى صلاح العرب والمسلمين، لأنه به صلح حال أولهم، وبين من يقولون: إن تبني مبادئ الحضارة الغربية ونتائجها من شأنه ايضاً أن يَصْلُحَ به حال العرب الراهن

(الحتمية الساذجة والتكرار الممل) هما الوهم المشترك بين من يدعو إلى استعادة الإسلام كأساس لنهضة جديدة، أو تبني الحضارة الغربية لتخطي الركود التاريخي والفوات الحضاري. فاستعادة الإسلام أمر غير عقلاني، لأن العالم الذي ظهر فيه الإسلام قد فني وباد، ولم يعد من سبيل إلى استعادته. وما أبعد الفرق بين أن يكون العرب قد صنعوا الإسلام عبر تجربتهم التاريخية الخاصة، وبين ما تبقى لنا اليوم منه على سبيل التركة التاريخية. فالحضارة العربية توقفت عندما استنفّدَ الإسلام كل طاقاته في الإبداع والتطوير. وما بحوزتنا اليوم منه نسخ لا حصر لها يكاد يكون عددها مكافئاً لعدد المتفقهين فيه. وليس ثمة نسخة منها إلا وهي مطبوعة بالطابع التاريخي المحدد للتجربة الأصلية، وهو ما يعني أن هذه النسخ أشد ارتباطاً بأصلها التاريخي من ارتباطها بمتطلبات العصر الراهن ومقتضياته. وذلك أمر طبيعي ما دامت كل فكرة تنشأ في زمان ومكان محددين، وتظل أدنى إلى أن تعكس ارتباطها بأزمنتها وأمكنتها المخصوصة.

وما يصدق على الإسلام يصدق على الحضارة الغربية. فقد كانت نشأتها محكومة بجدلها الباطني والخاص الذي لا انفكاك له عن الثقافتين اليونانية والرومانية والأصل المسيحي اليهودي. وقد أجابت هذه الحضارة عن سؤالها الخاص، (ما الإنسان، وما مكانته في هذا العالم؟). وما من شك في أن هذه الإجابة اليوم قد اكتسبت قيمة كونية. غير أن تبني نتائج النسق أو ثماره دون مقدماته وتطوراته المتشعبة هو عملية تجعلنا أقرب إلى تبني جثة النسق منا إلى تبني مضمونه وحيثياته الحية عبر أربعة قرون من التطور.

كل ما تقدم لا يعني أبداً أن علينا إهمال الإسلام إهمالاً تاماً، وأن نُخْرِجَه من دائرة اهتمامنا. ولا ينبغي له أيضاً أن يعني، على أي نحو من الأنحاء، اتخاذ موقف سلبي عبثي رافض لمنجزات الحضارة الغربية ذات الطابع الكوني. إن ما يعنيه، على وجه الحصر، هو ضرورة النظر إليهما باعتبارهما جزءاً من المنجزات الإنسانية التي لا يصح لعاقل تجاهلها. غير أن عدم التجاهل هذا لا يكون مثمراً ونافعاً، إلا إذا كان مقروناً باعتبارهما جزءاً من الميراث الإنساني آلافاً مؤلفة من السنين. وسواء تعلق الأمر بالإسلام أو بالحضارة الغربية، فلابد من أنسنتهما والتعامل معهما بعيداً عن كل تقديس.

يسمح لنا المسار التحليلي السابق، في ما نرى، بمجموعة من الاستنتاجات الجوهرية أولها: أن الخطأ كامن في الأسئلة، وليس في الأجوبة التي قدمت على هذه الأسئلة. فمن الطبيعي أن تكون الإجابة على السؤال الخاطئ، وغير المتناسب مع المشكلة المطروحة، إجابة خاطئة بكل تأكيد. وبالتالي فلا مندوحة لنا عن تصحيح الأسئلة لنتمكن من البحث عن الإجابات الصحيحة لها.  

ثانيها: إن الأسئلة التي حللناها متعلقة أساساً بمسألة (التقدم التاريخي). وهذا يعني أننا بإزاء مشكلة راهنة ومعاصرة، وبالتالي فالتحدي الذي يواجهنا يتمثل في ترجمة هذه المشكلة إلى أسئلة صحيحة ومتناسبة مع طبيعة الموضوع. وما لم نهتدِ إلى الأسئلة الصحيحة، فسيظل فكرنا وفعلنا محكومين بالأسئلة الخاطئة، وما يرتبط بها من أجوبة مضللة. وحتى نتخطى هذا الاستقطاب الذي يجعلنا رهينة لماضينا أو لحاضر غيرنا، فإن الخروج من هذه الحلقة المفرغة المتمثلة في التضاد بين حدين يجب تخطيهما كليهما، فلابد أن يكون السؤال المقترح هو: ما الدور التاريخي الذي يتعين علينا النهوض بعبئه ليكون لنا دور متميز نلعبه في حياة العالم المعاصر؟ وتفترض الإجابة الصحيحة أو المطابقة- أولا وقبل كل شيء- الابتعاد عن اقترانها برغباتنا المكبوتة أو المقموعة. ولابد لها ثانياً الانطلاق من الممكنات التي ينطوي عليها الواقع، ويسمح بتحقيقها. وهذا يعني ببساطة أن (الفعل) جزء لا يتجزأ من الإجابة الصحيحة على سؤال صحيح أو مطابق، وذلك راجع إلى أن السؤال قد أجيد طرحه، وأحكمت صياغته.

لئن صح أن الأمر قد أصبح متعلقاً (بالفعل)، وليس بمحض التأمل النظري، أو التفكير العقلي المجرد – وهو الطابع المسيطر على مناقشات النهضويين ومن تلاهم من كتاب التراث – فإن الإجابة عن السؤال المتصل (بالدور التاريخي) قد يتحول إلى مشكلة بحثية تجيب فيه جمهرة العلماء والمختصين من فلاسفة وعلماء اجتماع وساسة واقتصاديين وتكنولوجيين عن هذا السؤال في صورة مخطط علمي يكشف عن الدروب المفتوحة التي لم يزل من الممكن الولوج منها إلى قلب العالم المعاصر لاستكشاف ما يمكن فعله، وما ينبغي (فعله أيضاً).

وقد يخطر لمعترض أن يصف هذا (التخويل) للعلماء المتخصصين بأنه مجرد تكريس لنزعة وضعية ضيقة الأفق. وجوابنا على هذا الاعتراض هو التذكير بأن ندب العلماء إلى هذه المهمة لا يقل صعوبة عن الدعوة إلى إباحة المشاركة السياسية لكل من هو راغب فيها من أفراد الشعب. ذلك لأن (الحرية الأكاديمية) في بلاد العرب أمر من المحرمات شأنه شأن الجنس والدين.

وربما يكون العرب قد جربوا كل شيء في بحثهم عن التقدم والحرية والعدالة إلا العلم. وإذن فلما لا نعطي العلم فرصة، ولو لمرة واحدة؟. ومن المؤسف أن نؤكد للجميع أن حرية العلماء في ممارسة علمهم لا انفصال لها عن ممارسة الشعب لحريته، الأمر الذي يعيدنا من جديد إلى الحقيقة القاهرة، وهي أن الحرية السياسية هي الشرط الضروري للتمتع بالحريات الأخرى، ومن بينها حرية العلم والفن والأدب، وباختصار حرية الإنسان بما هو إنسان. وعليه فصورة التقدم التاريخي المطلوبة لا يمكن قبولها إن كانت صادرة عن الفيلسوف أو العالم بوصفهم أفراداً، وذلك لأنها في هذه الحالة لا تمثل إلا هذا العالم أو ذاك الفيلسوف فقط. والنتيجة هي أن التقدم التاريخي ثمرة لتفاعل خلاق بين الحريات، التي، لابد من إطلاقها على أشدها وفي طليعتها حرية المخيلة، وبعد ذلك يصبح الطريق إلى التقدم التاريخي عبر العصر الراهن أمراً ممكناً.