منهج الدبلوماسية الإيرانية

2020.12.29 | 23:02 دمشق

20191142115351865r.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ مطلع فجر الثورة الإيرانية التي اندلعت من شوارع طهران بتضافر جهود اليسار الإيراني مترافقاً مع التحالف الاستثنائي مع القوى الإسلامية والمرجعيات التقليدية المنفية حينها في زمن الشاه في فرنسا والعراق وبريطانيا، وعلى رأسهم الإمام الخميني الذي كان مقيماً في فرنسا، اعتمدت تلك الثورة التي اتخذت طابعاً إسلامياً بعد انقلاب الخميني على شركائه في الثورة وزجهم في محاكمات وإعدامات سريعة أدت إلى هرب أغلبهم من البلاد، اعتمدت تلك الثورة على مبدأ أساسي ومخفي عملت عليه حينها، ولا تزال تعمل به حتى يومنا هذا، ذلك (المبدأ\البروتوكول) الذي نظم آلية عمل سياسات الدولة الإيرانية الجديدة تجاه النظام العالمي المتغير والمتبدل حتى.

سياسة جريئة ومبادرة لا تنتظر الآخرين ومواقفهم من إيران، بل هي من تعمل على خلق أوراق وسياقات للعمل على إيجاد توازنات مع تلك القوى والبلدان، ذلك المبدأ الرئيسي الذي حكم سياسات إيران ولا يزال، كان ببساطة هو (الرهائن) فمنذ نجاح الثورة في اكتساح شوراع طهران وبقية المدن الإيرانية كان هاجس ساسة إيران هو إيجاد أوراق تفاوضية، أو أوراق ضغط، أو عناصر قوى كانت مفقودة في سياسة "طهران الدولة" تجاه العالم، الذي تصّلب في رفض قبول تبدل سياسات إيران من اليسار إلى اليمين، فكانت ببساطة حادثة اقتحام السفارة الأميركية وأخذ الرهائن هي مبدأ وليس حدثاً انفعالياً كما حاولت قيادات الثورة تفسيره للعالم، فعل خطف الرهائن كان فعلاً كبيراً تأمل فيه مرشد (الثورة) حينها وقادته طويلاً وقرروا اعتماده كأساس لسياسات إيران تجاه أية قضية معلقة بين إيران والعالم، حيث تندفع القوى غير الرسمية الموالية لقيادة الثورة والمؤتمرة من قبل قيادة الثورة، لتغير سكونية أية قضية بل لتقلب موزاين المسألة لتصبح في صالح قادة الثورة الإيرانية، صحيح أن ذلك المنهج كلف إيران الكثير من العقوبات والغرامات والحروب، لكنه وضعها بحسب رأيهم على خارطة الفعل السياسي الإقليمي، فمن وجهة نظر الساسة الإيرانيين، من يمتلك قدرة أكبر على إلحاق الأذى والضرر هو من يمتلك أوراقاً تفاوضية أكبر وأقوى.. وبناء عليه انطلقت ميليشيات تعمل مع "طهران الثورة" لايجاد رهائن هنا وهناك في المنطقة العربية والشرق الأوسط وحتى وسط أسيا، رهائن من الصحفيين ومن الدبلوماسيين ومن رجال الأعمال لا فرق، وهكذا بدأت طهران باستغلال حالة فقدان التوازن والأمن الحاصلة في لبنان التي كانت تعاني من حربها الأهلية، بإجراء عشرات عمليات الخطف للأجانب على أراضي لبنان، ونقلهم أو إخفائهم في مناطق تابعة لحركة أمل تارة أو لحزب الله لاحقاً، أو حتى إلى سوريا لاحقاً..أميركان وفرنسيون وبريطانيون وسوفييت، لبنانيون من أحزاب معادية لسياساتها، عرب معادون لها، معارضون من كل دول العالم كانوا يلجؤون إلى بيروت حينما كانت بيروت لؤلؤة حرية الشرق، فامتلأت سجون تدمر والمزة والضاحية الجنوبية، وحتى السجون السرية في بعلبك بعشرات المخطوفين الذين كانت طهران هي من تتولى عملية التفاوض على فك أسرهم وذلك لقاء ملفات تتعلق بها حصراً، أي لقاء سياسات تدعم نظامها وأمنه، وليس لقاء ملفات تتعلق بأمن ومصلحة الدول التي تم الخطف فيها، على الرغم من تحفظات كبيرة كان نظام الأسد الأب يسوقها من تلك العمليات التي كانت تؤذي نظامه وتفيد نظام طهران.. ولكن تلك التحفظات لم تمنع إيران في المضي قدماً في تلك السياسة، الناجحة حينها، والتي استطاعت خلق أوراق ضاغطة مفيدة لطهران من لا شيء..

ازدادت تلك السياسة ضخامة مع تولي فيلق القدس بذاته تنفيذها، فعمل على تنظيم عمليات اختطاف أشد خطورة وضخامة، مثل اختطاف تنظيم القاعدة الإرهابي بذاته

استمرت تلك السياسة الإيرانية بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، فالتفت إيران إلى باكستان وأفغانستان لتطبيق ذات السياسة عن طريق استغلال حالة الفوضى الناجمة عن الغزو السوفييتي لأفغانستان وما نجم عنها من فوضى في باكستان أيضاً، فانتشر عملاء طهران من أجل خطف الأجانب ومن ثم مبادلتهم على ملفات أخرى، لم تكتف طهران بخطف الأجانب وإنما بخطف قادة ميليشيات مناوئة لها من أفغانستان ومن ثم تحديد ما سيؤول مصيرهم من تبادل أو تصفية.. لا داعي لذكر أن كل تلك العمليات كانت تجري وسط إنكار تام من قبل طهران لمعرفة أي تفصيل عنها.. واستمرت تلك السياسة في التفاقم حتى خطفت إيران العديد من الدبلوماسيين الأجانب على أرضها ومن ثم تقديمهم لمحاكمات صورية بتهم الجاسوسية والعمالة..

ازدادت تك السياسة ضخامة مع تولي فيلق القدس بذاته تنفيذها، فعمل على تنظيم عمليات اختطاف أشد خطورة وضخامة، مثل اختطاف تنظيم القاعدة الإرهابي بذاته، عبر استدراج قادته زمن الحرب على أفغانستان، بحجة تأمين عائلاتهم، ومن ثم إسكانهم في ضواحي طهران وتنفيذ تحديد كامل لحركتهم إلا من خلال المخابرات الإيرانية، فبات التنظيم الارهابي الذي عجز العالم عن تصفيته، رهينة سياسات إيران الثورة ذاتها، فبات يتحرك وفقاً لأجندات تنظمها طهران حسب أهوائها.. فأمسينا نطلع على أخبار من نوع الإمساك بقائد جند الله عبد الملك ريغي المعارض المسلح لنظام إيران، في مقابل تصفية إسرائيل لقائد من حركة حماس في ذات الأسبوع، أو اعتقال أحد أبرز قادة حركة تحرير الأحواز حبيب أسيود من تركيا في مقابل تسوية ملفات تركية في أرمينيا وأذربيجان..

تفاقمت تلك السياسات حتى عمدت إيران إلى عقد (بازارها) التقليدي مع دول الإقليم والعالم حول مختطفين جدد، ولم يكن أولئك المختطفين بأحجام صغيرة أبداً، حينما قرر قاسم سليماني التوسع في عمليات الخطف حتى شملت دولاً بكاملها، حينما استطاعت إيران استغلال حالة اللااستقرار الإقليمي في خطف دولٍ مستقلة بكاملها، مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، ومن ثم عقدت بازارها السياسي التفاوضي لتحرير تلك الرهائن \ الدول.. فالمفاوضات القادمة مع إدارة بايدن ستكون حول الثمن الذي ستتلقاه إيران من أجل تحرير أو فك حجز تلك الدول، وإعادتها للسياق السياسي التقليدي، ذاك الثمن الذي تطلبه إيران سيكون مساوياً بالحجم والثقل والفائدة لحجم كل دولة من تلك الدول المخطوفة.. فثمن تحرير لبنان لن يكون مثل ثمن اليمن، وثمن تحرير سوريا، سيكون أقل من ثمن العراق الثري بالنفط والثروات، والذي لم يعد من أثر له بعد اختطافه بالكامل من قبل إيران..

إيران تتصرف بعقلية تنظيم ثوري\ خارج عن القانون، وليس بعقلية دولة ذات مصالح ونفوذ لها حقوق وعليها واجبات.

لقد كلفت تلك الدبلوماسية الإيرانية (الخطف والتبادل) إيران الكثير من العقوبات والأزمات الاقتصادية داخلياً، ولكنها استطاعت خلق هيولى ومناطق نفوذ سلبية لإيران في المنطقة، استخدمتها طهران بذكاء من أجل فرض شروط على تثبيت نظامها وإضفاء شرعية على سياساتها الداخلية أولاً والاقليمية ثانياً.. حيث لم تمتلك طهران أياً من أوراق التفاوض السياسي التقليدية، التي تعارف العالم عليها، المبنية على المساعدات والاستثمارات مثلاً أو على التدخل العسكري الرسمي والمباشر في الدول، أو على فرض عقوبات اقتصادية على الخصوم، وذلك لضعفها الاقتصادي ولخضوعها المبكر لعقوبات أميركية ودولية.. أضف إلى ذلك رفعها لشعارات كبيرة منذ واحد وأربعين عاماً تتعلق بقضية عربية مركزية لم تستطع تنفيذ أياً منها، على الإطلاق بل جل ما فعلته هو إشاعة التدمير في جميع الدول المحيطة بها، وكأنه قدر للدول المحيطة بها أن تتدمر، أو تخضم لابتزازها الصاروخي..

خلاصة القول إن إيران تتصرف بعقلية تنظيم ثوري\ خارج عن القانون، وليس بعقلية دولة ذات مصالح ونفوذ لها حقوق وعليها واجبات.. ولذلك هي لا تزال حتى يومنا هذا تمارس الابتزار عن طريق الخطف، حيث باتت الرهائن في غير مرة في حالة توحد مع الخاطف، مثل حركة الحوثي المنضوية تحت متلازمة استوكهولم، التي صارت تعتقد أن الخاطف أشد حنواً عليهم من أهل البلد.. وكم من نظام مخطوف في الشرق تتملكه متلازمة استوكهولم تجاه خاطفه الإيراني.