منطق اللاسياسات واللامنطق في شمال شرقي سوريا

2021.09.28 | 06:59 دمشق

منطق اللاسياسات واللامنطق في شمال شرقي سوريا
+A
حجم الخط
-A

ثمة شعور جمعي مع من نلتقي بهم، أنهم تحولوا إلى ميدان وحقول تجارب للأفكار والمشاريع الحزبية، ولا مجير لهم من مصيرهم القاتم. لسان حالهم، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو ضمن الجلسات الشعبية المختلفة، يدور حول الأسف والتشكيك العلني بشفافية ونزاهة هياكل الحكم المسيطرة على الأقانيم الاقتصادية، في منطقة غنية بكل الثروات، أصبحت غير مكتفية لتتحول إلى غير متكيفة مع ذاتها، همها كيفية إركاع القواعد الاجتماعية وجعلها في حالة القبول الدائم ونسيان الرفض ومصطلح الــ/لا/، منطلقة في ذلك من قاعدة أن الضغط يولد الطاعة، ما أثر على منظومة القيم والأخلاق والأسواق، والموارد البشرية، بل حتى العلاقات بين أبناء المجتمع المحلي، وأصيبت كلها بشقلبة في نمطية التواصل، تاركاً صراعاً طبقياً مريراً، وأصبحت المنطقة تطفو على مرض اسمه "الهجرة" كشفاء ودواء لكل المصائب.

وبعد أن كانت القواعد الاجتماعية تتشارك في القيم والطموحات، أصبحت تتشارك في الكشف عن خطط وطرق التهريب، فلم يعد من الممكن القول إن الآخرين وحدهم يغدرون بنا، بل الأصح أن كرد سوريا يعيشون أزمة على صعيد التخطيط الاستراتيجي، ورسم السياسيات،والقيادات، والأفكار، والتطلعات، حيث يسود حالياً في شمال شرقي سوريا منطق اللاسياسات واللامنطق.

اللامنطق الأول

 الاقتصار في تلبية مطالب الناس على الجانب الإعلامي فقط بغية الترويج الكاذب، والابتعاد عن إيجاد الحلول الجذرية للمشاكل المستعصية التي تعصف بالبلد. في مقابل تضخم ثروة طبقة البرجوازيين الحزبيين التي مهدت الإدارة الذاتية طريقهم للعمل بأريحية، وأثبتت أنها فاقدة لأيّ معايير الوفاء الوطني، فلم تكترث بأوجاع الناس، ولم تطرح مبادرة لمساعدة الفقراء والمحتاجين، ومستمرون برفع الأسعار وفقاً لمزاجهم الخاص، في ظل عدّم جرأة الرقابة والتفتيش من الاقتراب منهم. وما كان لهم تبوّؤ المشهد المالي والاقتصادي لولا العلاقات المشبوهة التي أمنت لهم تجارتهم وأعمالهم. ورُبما جاز القول إن بطلات "أفلام البورنو" في مختلف دول العالم، ساهمن في رفد القطاع الطبي في أوطانهم بمبالغ مالية ضخمة لمواجهة كوفيد19، فامتلكن جسارة وانتماءً تفوق فئة الرساميل الجديدة التي اختصت في تفريغ جيوب الفقراء. ولا نذيع سراً في القول إن الأمان والأمن هما العمق والعمود الفقري للاستثمار والتنمية المستدامة لكن البيئة الآمنة هي الأخرى تتطلب الخطط والقوانين، وبنى تحتية وتسهيل انسياب المواد الأولية والسلع والمنتجات عبر المعابر الحدودية، وعدم احتكارها لفئات محددة، وهي بكليتها مفقودة، لذلك الثقة والإيمان في أعلى درجاته أنه لا استثمار ولا مستثمرين  لهذا البلد، إلا من أثرى خلال سنوات الحرب عبر التجارة الممنوعة وغير الواضحة، لكنها لن تكون على مستوى إنشاء منشآت اقتصادية، هي فقط بعض معامل "شيبس –كونسيروا وما شابه، أو تجارة العقارات؛ ورغبة الاستثمار بغالبيته لتبييض أموالهم.

اللامنطق الثاني

اللامنطق مستمر في ابتلاع حيوات وأرزاق الناس. ففي الدور الزراعية المنصرمة، وبسبب الجفاف وانحباس الأمطار، ولولا مردود المحاصيل الزراعية المعتمدة على الريّ عبر "محركات –غطاسات" تشتغل على -التيار الكهربائي، لشهدت المنطقة مجاعة حقيقية؛ فقرابة الــ/75-80%/ من المحاصيل والأراضي الزراعية المروية تعتمد على الكهرباء، في حين أن /25-30%/ تعتمد في السقاية على مادة المازوت في تشغيل محركاتها، وبعد عجز الإدارة الذاتية من تأمين المازوت للنسبة القليلة، يتم العمل حالياً على إلغاء اشتراك الكهرباء لكل تلك الأراضي الزراعية، بحجة عدم توفر الكهرباء للمدن والأحياء، وفي خلفية الموضوع، تغص الأسواق بألواح الطاقة الشمسية ومولدات المازوت باستطاعة ضخمة، وتالياً فإن الخيار الوحيد للمزارع هو إما شراء مولدة مازوت- ألواح طاقة، لتشغيل آبار ريّ الأراضي الزراعية، أو زراعة أراضيهم بعلاً وانتظار رحمة السماء، وعدا عن التكلفة المالية الكبيرة التي تتراوح ما بين /15000-30000$/ فإن الأحجية تكمن في كيفية تأمين المازوت لجميع المشاريع الزراعية المروية، وهي التي عجزت عن توفيره لنسبة قليلة قبل الآن؟ وإذا كانت الإدارة الذاتية تتجه لشراء القمح، فكيف لها من وضع كمية ضخمة من العصي في عجلات الدورة الزراعية؟ عدا عن تضرر القطاع الزراعي من جذره نتيجة قلة الأدوية والأسمدة، وقلة مساحة زراعة مادة القطن؛ لعدم كفاية المياه والكهرباء والمازوت، في عموم المنطقة، وكأن بالإدارة الذاتية وخلافاً لجميع دول العالم والمنطق، تضع خططها المختلفة على ما هو موجود ومبني، في حين أن الأصح والمنطق هو البناء وفقاً للمخططات.

اللامنطق الثالث

 أن ما يجري في بلادنا مؤلم، ومُبكي، وبل موجع لحد البحث عن من يشفق علينا، كل هذه المساحات الضخمة من الأراضي المزروعة بالقمح، وبات همنا كيفية تأمين رغيف خبز لأطفال المدارس، أما حجة نقص الطحين الأبيض فهي أحجية ونُكتة سمجة في وقتٍ واحد، حيث محلات الحلويات والمعجنات والصمون..إلخ وما أكثرها لا تجد صعوبة في شراء أطنان من الطحين من مصادر مختلفة، لكن الأفران لا تجد الطحين، منها التي تبيع الطحين عوضاً عن تحويله إلى الخبز، ومنها من تستلم كمية قليلة كونه –الطحين- يُباع لأصحاب محلات الحلويات وغيرهم بطرق أخرى، وبسعرٍ عالٍ، فيجد المواطن نفسه ضمن دوامة توفير الخبز.

وصحيح أن أبناء القوميات الخاصة عانوا سابقاً من كل أشكال القمع والإنكار والإلغاء والملاحقات الأمنية في سوريا، وكان في الجزيرة السورية فقر وفقراء، لكن عبر تاريخ هذه المنطقة، سلة سوريا الغذائية، لم يكن فيها جوع، ورُبما نام الكثيرون بعد تناول وجبة ضعيفة الدسم والحجم، لكن لم ينم فيها جائع من دون أن يجد في منزله بقايا كسرات الخُبز، وتالياً يخوض الأهالي صراع تأمين الخبز والمستلزمات الحياتية، والتي يتسبب فقدانها تمهيد الطريق للشر القادم، وبناء عليه، نشاهد طوابير ضخمة على الأفران المختلفة، والتي تتلاعب هي الأخرى بالأسعار وحجم ونوعية رغيف الخبز ليصل سعر الرغيف الواحد إلى 500 ليرة، وربطة الخبز السياحي قرابة 1200 ليرة، تطبيقاً لقرارات الإدارة الذاتية.

اللامنطق الرابع

أصبحت جلودنا كالتماسيح، ووجوهنا اعتادت لطم التهم والسباب والشتائم والتخوين والعمالة لكل صوتٍ بقي متشبثاً بأرضه ومنادياً بالمساواة والتعددية السياسية ومواجهة الفقر

أصبحت جلودنا كالتماسيح، ووجوهنا اعتادت لطم التهم والسباب والشتائم والتخوين والعمالة لكل صوتٍ بقي متشبثاً بأرضه ومنادياً بالمساواة والتعددية السياسية ومواجهة الفقر. منطقتنا لم تتعرض للبراميل ولا القصف، مقارنة بباقي المناطق السورية، فلمَ التأخر في النهضة التنموية والزراعية والمعيشية؟ القوى البشرية التي لا تزال موجودة في الجزيرة السورية بإمكانها إعادة شيء من الأمل، لكن لا اكتراث من أحد بهم ولا بكيف يتدبر المواطن أمره في ظل ظروف قاهرة، الله وحده يعلم كيف يعيشون، خاصة شريحة الموظفين سواء في الإدارة الذاتية أو الحكومة السورية، والعمال المياومين. كل هذه المآسي لا تكفي، ولم تمل الإدارة الذاتية من جباية الضرائب من بيوت الفقراء والمحتاجين، ثم كان سن القانون الضريبي، الذي لا يستفاد منه الفقراء في شيء.

اللامنطق الخامس

يُنسب إلى علي بن أبي طالب هذا القول: "أحقر الناس من ازدهرت أحوالهم عندما جاعت أوطانهم"، في حين أن السياسة فيما "يسمى شمال شرقي سوريا" أمران لا ثالث لهما: أحاديث الحرب والنزعات، الفساد والإفساد، وهما يتصاحبان ويتسامران معاً في طريقهما للنيل من المواطن، فيمدان بعضهما البعض بطاقة اشتغال ذي فعالية مديدة لابتكار كل الأساليب المطلوبة للنيل ممن بقوا في هذه الأرض الملعونة، ذلك التحالف ما بين المفسدين والفساد يكافئون من بقوا على أرضهم، ومن حاربوا الإرهاب، وصمدوا أمام كل الضغوطات، مؤيدين للإدارة الذاتية، أم معارضين لسياساتها، يقدرون تضحياتهم بالتفكير ليل نهار، كيف تُهان كراماتهم وتخلق من أولياء الأمور أقزاما أمام طلبات أبنائهم.

المنطق الوحيد

ووفقاً لذلك، فإن "الخراب" المتبقي من شمال شرقي سوريا يسير بخطى ثابتة وصُلبة نحو نهاية غامضة ووخيمة، لا طاقة أو خيال خصب لنا لاستشرافه أو تخيل حجمه؛ فلم يسبق أن اختبرنا بؤساً وقحاً كهذا، فكيف يُمكننا أن نتخيل نهاية جماعية لشعبٍ اشتُغيِلَ عليه ليقبل الاستكانة والرضوخ. لكن المؤكد أن لا حياة في هذه البلاد لطالما أن الكلمة العليا هي للفساد والإفساد، بعد أن امتلكت منطقتنا قوة البقاء والصمود، ولو في الحد الأدنى من الأقانيم الاقتصادية والقوة البشرية، تحولت تلك القوة إلى حقلِ ألغامٍ آيلٍ للتفجير في أيّ لحظةٍ.