منتهى العلم قول لا أعلم

2021.07.28 | 06:30 دمشق

wsayl-altwasl-alajtmay-wathrha-ly-almjtm4.jpg
+A
حجم الخط
-A

قيل إن رجلا زار الإمام مالك بن أنس، وقال له يا أبا عبد الله، جئتك من مسيرة ستة أشهر، حمّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأله الرجل عن مسألة، فكان جواب ابن أنس "لا أعلم"، فأجابه السائل أي شيء أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: "لا أعلم".

تذكرت هذه القصة بعدما كتبت قبل يومين تغريدة بسيطة عما حدث في تونس، وبالطبع أنا لست ابن أنس فهو العالم ومؤسس أحد المذاهب الأربعة في الإسلام وفقيه المدينة المنورة، هو كل ذلك وأكثر، ومع ذلك عندما سئل بأمر لا يفقه فيه قال "لا أعلم"، وأنا شأني شأن كثيرين، أملك المعرفة بأمر وأجهل أمورا كثيرة وقد صدق أبو نواس عندما قال:

قل لمن يدعي في العلم فلسفة               حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

عندما رفضت الانقلابات وتدخل العسكر بالسياسة، وتمنيت الخير لتونس وأهلها وذكرت أني لست ملمة بتفاصيل الوضع في تونس، انهالت التعليقات ترفض كلامي وكأني أيدت الانقلاب علما أن ذلك هو ما رفضته بوضوح، ولكن قولي "لست ملمة بالوضع التونسي"، بعد رفضي للانقلابات ولتدخل العسكر بالسياسة هو ما أصر البعض على اعتباره مرة تأييدا للعسكر، ومرة على أنه "رمادية" بالموقف من الديموقراطية وخيارات الشعب، بل وأكثر من ذلك بدأ البعض يقارن بين الوضع في سوريا ورفضي أن يؤيد أي مواطن عربي لبشار الاسد وبين قولي "لست ملمة" بالوضع التونسي.

يبدو أن الاعتراف بعدم امتلاك المعرفة الكاملة بأي أمر تهمة، تهمة بأنك تتهرب من إعلان موقفك الحقيقي، أو تهمة بعدم امتلاك موقف من قضية أخلاقية

قبل ذلك بأسابيع كتبت تغريدة عن موضوع اللقاحات والمشككين بها وخصوصا أولئك الذين يزاودون بالمعرفة على من أمضى سنوات طويلة من عمره بدراسة الطب وما يتفرع عنه ليصلوا إلى المختبرات ويكتشفوا اللقاحات، انهالت يومها أيضا التعليقات رفضا لكلامي، فكثر صاروا خبراء بعلم الفيروسات وعلم اللقاحات وأمراض القلب والشرايين والضغط.

ليست وسائل التواصل الاجتماعي إلا انعكاسا وإن لم يكن كاملا لصورة مجتمعاتنا، حيث يبدو أن الاعتراف بعدم امتلاك المعرفة الكاملة بأي أمر تهمة، تهمة بأنك تتهرب من إعلان موقفك الحقيقي، أو تهمة بعدم امتلاك موقف من قضية أخلاقية، أو سخرية من جهلك كيف لا تملك المعرفة الكافية لتفتي بشتى المواضيع. فلا يكفي أن تعلن أنك ضد الانقلاب، لا بل عليك أن تدخل بتفاصيل الحياة السياسية في تونس، وتفسر الدستور وتذكر أسماء النواب والأحزاب، وعليك أيضا أن تكون خبيرا فتملك مفاتيح العلوم الطبية وتشرح الفرق بين لقاح فايزر وسبوتنيك واسترازينيكا، وقد يطلب منك أن تعطي رأيك بعلاج ما لمرض ما. وما أكثر الاستشارات الطبية من غير  أهلها على صفحات التواصل الاجتماعي.

ذكرت أمر التغريدتين كأمثلة تحصل مع كثيرين يوميا، فقد باتت وسائل التواصل الاجتماعي صورة تعكس طبيعة ما تمر به مجتمعاتنا، ولا أظن أن السبب يتعلق بطبيعة الإنسان العربي بقدر ما تتعلق بتعطش لإبداء الرأي والاعتراض بعد سنين طويلة من غياب قدرة الإنسان على إبداء رأيه بأي أمر، حتى كان يقال إن العربي لا يجرؤ على فتح فمه إلا عند زيارة طبيب الأسنان.