مناطق نفوذ أم مقدمة لتقسيم دائم؟

2020.03.29 | 00:00 دمشق

2020-03-12t195722z_1097675746_rc2jif9fs86i_rtrmadp_3_syria-security-anniversary.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل قليل شاهدت مقطع فيديو مدته 39 ثانية فقط، التصوير تم من أحد طوابق بناء يطل على شارع، تصل سيارة معتمد توزيع الخبز على السوريين إلى بداية الشارع، وهي شاحنة بيضاء تكدست أكياس الخبز في صندوقها الخلفي؛ فيندفع عشرات السوريين راكضين خلفها محاولين اللحاق بها، بينما تواصل السيارة سيرها غير عابئة بمن يركضون، بعد مسافة ينقسم الراكضون إلى فئات: شباب يركضون في المقدمة يليهم فتية، وفي الخلف يسير كبار السن محاولين لحاق الخبز، بينما تسير النسوة على الرصيف محاولات ألّا يركضن؛  فيمشين بأقصى ما يمكنهن من السرعة فقط.

إنه الخبز: كابوس السوريين الذي لا أتذكر أنه اختفى يوماً. نعم، لقد استطاع حافظ الأسد وابنه من بعده، أن يجعلا من الخبز مشكلة السوريين التي ما إن تنسى قليلا حتى تعود من جديد لتكون شغلهم الشاغل.

نعم، في الوقت الذي يقف العالم كله حائراً أمام لغز "الكورونا" وتداعياته، وماذا سيحمل إلى هذا الكوكب، وماذا سيترك على سطحه، فإن السوريين مضطرون للجري وراء شاحنة بيضاء مكشوفة؛ كي يتمكنوا من تأمين بضعة أرغفة. إذاً، أية فجيعة هذه!

وكما لو أنك- أنت السوري المشلوح إلى البعيد- لم تكتف بالصفعة الأولى التي ترى فيها مشهد السباق خلف الخبز، ونحو الخبز، فتباغتك صفعة أخرى أشد وقعاً وإيلاماً، عندما تقرأ ما نشرته "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية: يمكن الحديث عن توصل الأطراف إلى اتفاق على تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، ولا خيار أمام دمشق سوى قبول الواقع.

إنه الخبز: كابوس السوريين الذي لا أتذكر أنه اختفى يوماً

هكذا: لا خيار أمام دمشق سوى قبول الواقع. إذاً يمكن القول بأقصى ما يمكن من البساطة والتقرير: إن مناطق النفوذ هذه، قد تكون خطوط التقسيم القادمة. أليس بوتين هو من قال بوضوح ما بعده وضوح، أثناء لقائه مع مديري وكالات الأنباء العالمية، على هامش منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، يوم الخميس. 1-6-2017: "نقيم الآن مناطق خفض التصعيد، وهناك تخوف محدد من احتمال تحول تلك المناطق إلى نماذج لتقسيم البلاد في المستقبل".

وقبل تصريح بوتين- المذكور آنفاً- بعام، وقف جون كيري في 24-2-2016، وقد كان يومها وزير خارجية أمريكا، مقدماً شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي؛ فقال: "ربما يفوت الأوان لإبقاء سوريا موحدة؛ إذا انتظرنا فترة أطول".  ولقد أضاف كيري في شهادته نفسها: إن لدى واشنطن "خطة بديلة" جاهزة، في حال لم تنجح الجهود المبذولة لإنشاء حكومة انتقالية في سوريا.

إذاً، هل يمكن القول، إن ما تخوف منه السوريون، وحذروا منه منذ أن انطلقت ثورتهم: بأن الذهاب إلى القمع؛ سيقود البلاد إلى الاحتلال والتقسيم، قد أصبح أمراً واقعاً لن يجد السوريون أي قوة لمقاومته؟

و بعيداً عن التصريحات وعن كواليس السياسة وعن محاولات تفسير تناقضاتها وألاعيبها، ألم تقل لنا وقائع ما يحدث منذ سنوات ومجرياته: إن ما يشتغل الآخرون من أجله، وما يمضون إليه، ليس هو ما يعلنونه في مؤتمراتهم الصحفية حول تمسكهم بوحدة الأرض السورية، ولا هو ما يرددونه في العلن، ولا هو ما يتشدقون به على الموائد والمصاطب، إنما هو ما يختفي في الملفات والإستراتيجيات والمصالح، إنه القول الذي يصرفون من أجله الجهد والوقت والمال الذي هو: إن سوريا يجب أن تذهب إلى تقسيم ما يمكن أن تحصل عليه القوة من أجل المصلحة؛ أي إن سوريا يجب أن تصل إلى تقسيم الأمر الواقع. ولذلك فإن سياسة سيارة الخبز إياها، لابد أن تكون شديدة الارتباط بالإستراتيجيات الخفية التي علاماتها بارزة على سطح بلادنا- وفي قلبها الإنهاك والفقر؛ فالركض خلف رغيف الخبز- التي أصبحت مزقاً تتسيد عليها دول وجيوش.

أما كانت قد قالت لنا معركة تسليم حلب شيئاً؟

أولم يقل لنا تسليم الغوطة شيئاً؟ ثم قول وادي بردى، ومن بعده نشر نقاط المراقبة التركية، ثم استقدام عشرات آلاف الجنود من أربعة أصقاع الأرض، هذا غير عشرات القواعد العسكرية لقوات أجنبية، وهي متعددة بتعدد تبعيتها لدول عديدة... إن تلك الوقائع كلها، ألم تقل لنا، نحن السوريين: إن ما يحدث لا علاقة له بمحاربة الإرهاب إلا بالتوظيف الإعلامي، وإن ما يحدث لا علاقة له بضمان أمن حدود هذه الدولة أو تلك، ولا علاقة له أبداً بالدفاع عن الشعب السوري المستباح من قراصنة الأرض جميعهم. وإن ما يحدث لا علاقة له بإبقاء طاغية مستبد كحاكم على هذه البلاد المنكوبة، ولا بإزالته؛ لأن هذا كله وغيره ما هو إلا تفاصيل قد تزول في مجريات الصراع، وقد يُضاف إليها ما لا يخطر على بال.

وعلى هذا: إن تجاهل احتمال تقسيم سوريا من قبل السوريين، هو هروب من مواجهة الحقيقة؛ لأن التقسيم قادم، وإن بوابته هي ما يسمى الآن مناطق النفوذ، وإن السوريين لن يكون لهم أي دور في رسم أقل تفاصيله، إذا ظلوا على ما هم عليه.

ومع ذلك، لابد من السؤال الذي يفرض نفسه، هنا والآن وفي هذه الشروط واحتمالاتها: هل بإمكان السوريين فعل أي شيء؟

والجواب عن السؤال، لابد أن يكون بداية: لن يكون بالإمكان فعل أي شيء؛ طالما أن من يتحدثون باسم السوريين، هم من تحدث باسمهم حتى الآن؛ إذ لا بديل لنا- نحن السوريين المستباحين من جهات عديدة- من صوت وطني يرفع سوريا فوق تفاصيل الصراعات التي تم زجنا فيها عن سابق إصرار وإدراك وعمد، لا بديل لنا من صوت وطني يرى مصالح سوريا الإستراتيجية ومستقبلها أولاً، وثانياً وثالثاً، وقبل كل شيء.

لهذا فإن دفع السوريين إلى الانشغال بمواجهات البقاء معلوم ومخطط له؛ كي لا ينتبهوا إلى ما يخطط لهم ولمستقبلهم، ولكي يجدوا أنفسهم عاجزين عن فعل أي شيء؛ هذا إذا انتبهوا.

هكذا إذاً يا أيتها الأرض الضيقة: شاحنة بيضاء مكشوفة تسرع؛ فنركض خلفها؛ لنشتري ما تبقى من وطن، ينزلق من بين أيدينا إلى حيث يمسي حلماً، يكاد أن يكون مستحيلاً.