من يملك حق التجنيد الإجباري؟

2021.01.11 | 00:03 دمشق

18380152071419308337-018144966_30300.jpg
+A
حجم الخط
-A

على طول مناطق سيطرة النظام السوري وعرضها يقبع آلاف الشبان في بيوتهم هرباً من التجنيد. يتحركون في نطاق محدود حذرين من الحواجز، ويحلّون مشكلة الدوريات المكلفة بالبحث عنهم بالرشوة.

مع اقتراب العام العاشر للثورة من نهايته، مع ما تلا ذلك من صراع عنيف، فقد واجهت هذه المعضلة مئات آلاف المطلوبين لأداء الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية مهما كان موقفهم السياسي. وربما كان العدد أكبر من ذلك مع توالي الأجيال التي كبرت خلال العقد الأخير لتجد نفسها أمام هذا الاستحقاق بمجرد بلوغها الثامنة عشرة، أو إنهائها الدراسة التي هي المبرر الأشهر للتأجيل عن الخدمة الإلزامية.

لم يبدُ الأمر باهظ الثمن في البداية، ولا سيما لدى البيئات المؤيدة للنظام أو الرمادية. فقد انخرط الأولون في قواته بحماسة للقضاء على «المؤامرة»، في حين انصاع الآخرون، كعادتهم، لحكم «الدولة» وأرسلوا أبناءهم للقتال في صفوفها دون أن يعوا مقدار الخطورة وعظم المهمة التي استهلكت من أعمار الشبان ما تجاوز الثمانية أعوام أحياناً، في حين أن المدة النظامية المقررة للخدمة الإلزامية كانت قد استقرت على ثمانية عشر شهراً في آذار 2011 الذي صادف قيام الثورة. ومن المهم أن نذكّر أن من نجوا بعد سنوات الخدمة الطويلة هم المحظوظون، في حين توالت التوابيت مصحوبة بمراسم تكريم «الشهداء» البائسة، أو سيارات الإسعاف إلى المشافي وربما الإعاقة بعد ذلك. مما دفع إلى التهرب من الخدمة حتى في أوساط موالين لصيقين أو البحث عن طرق للتحايل وتدبير هجرة الشبان في بيئات مؤيدة هاجعة. في حين قاد الوقوع في الاصطفاف، نتيجة التجنيد الإلزامي لا الاختيار، إلى تورط أسر في الوقوف في معسكر النظام طالما أنها لن تتمنى لابنها الهزيمة التي كثيراً ما عنت الموت. وتمزقت عائلات أخرى بين معارض و«شبّيح» ارتدى البزة العسكرية عنوة.

تجاوز النظام حذره من مسألة الولاء فعمد إلى تجنيد أبناء المناطق الثائرة بعد أن استعاد سيطرته عليها

غير أن الأمر لم يتوقف هنا. فمع النزيف المفتوح الذي أصاب «الجيش العربي السوري» بالمعارك والانشقاقات والتهرب، واستنكاف أكثر المطلوبين للتجنيد في محافظة كاملة، هي السويداء، عن الالتحاق بالخدمة؛ تجاوز النظام حذره من مسألة الولاء فعمد إلى تجنيد أبناء المناطق الثائرة بعد أن استعاد سيطرته عليها، في انهيارات عسكرية أعقبتها «مصالحات» خلال السنوات الأخيرة، أرجعت إلى سلطته جزءاً معتبراً من مساحة البلاد ومئات آلاف، وربما ملايين، «الرعايا» الذين فرض على المكلّفين منهم الالتحاق بالخدمة العسكرية بعد مدة ستة أشهر على إنجاز اتفاقية «المصالحة» وتسوية أوضاعهم الأمنية حتى لو كانوا من المقاتلين المناهضين له خلال السنوات السابقة. معتمداً على الرقابة التي يشرف عليها ضباط موثوقون، وعلى صعوبة الانشقاق بعد أن استقرت الحدود المسلحة عملياً في البلاد. ومؤخراً أضاف إلى المستهدفين بالتجنيد أولئك الذين خرجوا من السجن بعد اتهامهم بمناهضة السلطة في «محكمة الإرهاب»، سواء قضت هذه المحكمة ببراءتهم أو أنهوا سنوات حكمهم أو ما زالوا قيد المحاكمة خارج السجن. ومن المعروف أن معظم من مثُل أمام هذه المحكمة هم من معتقلي الثورة في المظاهرات وغيرها.

بناء على الجردة الواسعة السابقة والمستمرة لأعوام، مدفوعاً بغريزة البقاء، أضاف النظام إلى جرائم قصف المدنيين وحصارهم وتهجيرهم واعتقالهم؛ جريمة زج عدد يصعب حصره من الرجال في معارك الموت، ليقتُلوا أو يُقتَلوا ببساطة. وإذا كانت الانتهاكات الأولى مما يطوله القانون الدولي، ولو نظرياً، فإن التجنيد الإلزامي ما يزال من الصلاحيات المعترف بها للنظام ما دام يمسك بتمثيل سوريا في الأمم المتحدة. وهذا وجه فادح من أوجه قصور المواثيق الدولية وتعاطي العالم مع القضية السورية ما دام قد قرر، بناء على وصف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن النزاع في هذا البلد أصبح، قانوناً، صراعاً مسلحاً غير دولي، أو حرباً أهلية بالتعبير السياسي الشائع، في تموز 2012.

طالما أن تجريم قيام الجماعات المسلحة بالتجنيد الإلزامي هو محل اتفاق؛ فعلى أي أساس تقوم «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بهذا السلوك

لا يفرض القانون الدولي على «الحكومة» أي قيود على تجنيد الأفراد حتى بعد أن أصبحت أحد أطراف النزاع. فوفق ورقة أعدها «المركز السوري للعدالة والمساءلة» ينظر القانون الدولي إلى التجنيد الإلزامي على أنه ممارسة لسيادة الدولة، ولا توجد أحكام في هذا القانون تمنع تلك الممارسة. أما بالنسبة للجهات المسلحة غير الحكومية فيعدّ التجنيد الإلزامي انتهاكاً للقانون، مثله مثل الاسترقاق أو الخطف، لأن هذه الأطراف لا تملك المزايا التي تتمتع بها الدول ذات السيادة. وهنا نتساءل إن كان رفض أداء الخدمة أو الفرار منها أو الانشقاق عنها، وهو مما يخالف أنظمة السيادة المحلية، فهل العقوبات التي تفرضها السلطات على هذه السلوكيات مغطاة أيضاً بالقانون الدولي؟ أم أن تجنب الخدمة في قوات متهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مما ينبغي تشجيعه من الناحية القانونية وليس الأخلاقية فقط. وهل تعود هذه المسافة بين حق الفرد وصلاحيات الدولة هنا إلى أن واضعي القانون الدولي هم ممثلو الدول، لا المجتمعات، في الأصل؟

سؤال آخر يجدر طرحه في الحالة السورية: طالما أن تجريم قيام الجماعات المسلحة بالتجنيد الإلزامي هو محل اتفاق؛ فعلى أي أساس تقوم «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بهذا السلوك دون أن يتناقض ذلك مع الدعم الذي تتلقاه من دول غربية حليفة مقيدة بالقانون؟ علماً أنها الجماعة الوحيدة التي تفرض التجنيد الإلزامي، وهو ما لم تفعله قوات الجيش الحر أو الوطني أو الفصائل الإسلامية، ولم تمارسه حتى داعش!