من كتب التقرير الأمني بهالة الجرف؟

2021.02.11 | 00:16 دمشق

halt_aljrf.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الشهور الأولى للثورة، شهد التلفزيون السوري أو (المبنى) كما كان موظفوه يسمونه، انقساماً حاداً غير معلن، بين العاملين فيه (صحفيين وفنيين)، قوامه؛ تأييد قسم منهم الحراك الشعبي، والمشاركة فيه، ورفض القسم الآخر له، ومعاداته، ومشاركة الشبيحة وعناصر الأمن قمعه في الشارع، والتبليغ عن زملائهم الذين يشك بولائهم للنظام.

دفع الأولون أثماناً كبيرة لمواقفهم، فاستدعي كثيرون للتحقيق في الفروع الأمنية، واعتقل آخرون، واستشهد البعض تحت التعذيب، وانتهى المطاف بعدد من المناصرين للثورة إلى مغادرة البلاد، بعد أن طُردوا من أعمالهم، وصاروا مهددين بالاعتقال في أي لحظة، إثر صدور قرارات منع السفر بحقهم، تمت بناء على طلب مكتب وزير الإعلام آنذاك عدنان محمود، واقتراح لجنة أمنية، ضمت في عضويتها عدداً من المديرين الصحفيين، كان أبرزهم مديرا التلفزيون والإذاعة!

دفع الأولون أثماناً كبيرة لمواقفهم، فاستدعي كثيرون للتحقيق في الفروع الأمنية، واعتقل آخرون، واستشهد البعض تحت التعذيب

وبينما وجد المؤيدون أنفسهم سادة للمكان، ولاعبين فيه بلا منازع، بعد أن تمت تصفية وجود حفنة المعارضين، سموها بتنسيقية التلفزيون، استثمر النظام بهؤلاء، فجعلهم واجهته، لكنه سرعان ما بدأ باستبدالهم بآخرين، كانوا يأتون للمواقع الإدارية فترةً ثم يغادرونها مرغمين، إذ لم تُبقِ حروب مراكز القوى أحداً في مكانه، ولاسيما حرب المستشارة الحالية لونا الشبل مع المستشارة السابقة بثينة شعبان، بالإضافة إلى ما جرى الحديث عنه غير مرة من تناحر خفيف بينها وبين أسماء الأسد.

البقاء في المؤسسات الإعلامية الرسمية، كان يعني ومازال أن يجد الصحفي لنفسه مساحة محمية ضمن هذا الفضاء المسموم، فإذا ما استطاع تجنب العمل في خدمة الأجندة المعلنة، أي دعم سردية النظام والعمل على الضخ فيها، ومن أجلها، فإنه لابد سيجد نفسه في لحظة في مواجهة مع أحد المؤيدين ممن أدمنوا تكرار الحديث عن المؤامرة الكونية، وجعلها سبباً لكل ما يعانيه السوريون! هنا يمكن المجاملة قليلاً، ولكن رفض أي شخص لهذه اليقينيات لابد سيضعه أمام خطر التشكيك بالولاء!

فئة كثيرة العدد ممن يعملون في التلفزيون السوري، واصطفوا إلى جانب النظام، زمن الثورة، جاءت إلى فضائه عبر وساطات قوية في زمن الأسد الأب، فآباؤهم كانوا ضمن الدائرة المقربة، أو المرضي عنها من قبل رأس النظام، ما سمح لهم العمل في المؤسسات حيث يرغبون.

وإلى هذه الفئة تنتمي المذيعة المعتقلة هالة تميم الجرف ابنة مدينة سلمية، فهي ترتبط بقرابة لصيقة مع الشقيقين الضابطين المتقاعدين اللواء الطيار عبد الله والعميد الركن الطيار أديب الجرف، الذي يحمل "وسام بطل الجمهورية السورية"، وقد صارت قصتها أنموذجاً لتضحية النظام بالشرائح المنضوية في تكوينه، في سبيل استمرار وجوده.

تأكيد رئيس اتحاد الصحفيين موسى عبد النور اعتقال الجرف من قبل فرع مكافحة الجرائم الإلكترونية التابع للأمن الجنائي، وقوله إن ذلك قد حدث بسبب ارتكابها مخالفة فيما يتعلق بالنشر الإعلامي على مواقع التواصل الاجتماعي وأنها تجاوزت محظورات النشر! وبحسب السياق الذي توضع فيه قصتها سيؤدي إلى محاكمتها أمام القضاء المختص، أي أن محام سيدافع عنها وسيكون في مواجهة القاضية هبة الله سيفو رئيس النيابة العامة المختصة في جرائم المعلوماتية وجرائم الاتصالات، وهي شخصية نسائية اشتهرت بتصريحاتها المثيرة بما يخص الأخبار التي توهن نفسية الأمة، وتنتمي أيضاً إلى مدينة سلمية، كما أنها ابنة للواء المتقاعد محمد سيفو الذي كان من أبرز ضباط الأمن السياسي في عهد حافظ الأسد، الذي شغل منصب معاون وزير الداخلية للشؤون المدنية، وتولى موقع وزير دولة لشؤون مجلس الوزراء قبل أن ينتهي به المطاف ممثلاً مقيماً لشبكة الآغا خان في سوريا.

ما يعني في المحصلة أن المواجهة العتيدة، هي جزء من حلقة مفرغة يعيشها كثيرون ممن ينتمون إلى الفضاء المؤيد للنظام، فيفهم بعضهم تكوينه المافيوزي، ويتأقلمون معه، فيصبحون جزءاً منه، بينما يفقد البعض الآخر لياقتهم في التعاطي معه ويقعون في النهاية ضحايا ليس فقط لطبيعة النظام، بل أيضاً لآخرين ينغمسون في مافيا الولاء يتسابقون لجني الأرباح والجعالات، عبر تشبيح هنا، وكتابة تقرير أمني هناك، ولن يكون مستغرباً أن يعمد النظام لاحقاً وربما في وقت قريب، إلى الإطاحة بهبة الله، وتحميلها هي وغيرها، سياسة قمع المؤيدين السائدة حالياً!

في فيلمه الرهيب (الإيرلندي The Irishman) والذي يستند إلى حكاية واقعية، يُظهر المخرج مارتن سكورسيزي شخصيته الرئيسية فرانك شيران (يؤديها النجم روبرت دونيرو)، في موقف درامي ذي حمولة نفسية هائلة القسوة، إذ يجب عليه الاستجابة لأوامر المافيا التي ينتمي إليها، حتى وإن تعارضت مع عواطفه، فيقوم ببرودة بقتل صديقه القائد النقابي جيمي هوفا (أدى دوره آل باتشينو)، فالأوامر هي الأوامر، طبيعة الانتماء منذ البداية تجعل عضو العصابة ضمن خيارات محدودة، فإما الرضوخ أو الموت، وكما في العقيدة المافيوية اليابانية؛ مخالفة الأوامر يمكن الاعتذار عنها بقطع الإبهام، لكن تكرارها يعني حكما نهائياً بالموت!

تذكر هذا الجزء اللافت من سياق السينما، قد يكون مفيداً في سياق شرح طبيعة علاقات، قد لا يفهمها كثيرون ممن يمحصون في واقع وتفاصيل شراكة نظام الأسد مع مؤيديه، والعاملين في فضاء مؤسساته.

فالعلاقة بين هؤلاء ورأس السلطة، هرمية، أي أن قوة الشخص المؤيد تتأتى من موقعه في تراتبية طبقات الهرم، فالطبقة التي تلي الرأس هي الأقوى، وتقل عنها الطبقة التالية قوة، وهكذا وصولاً إلى قاعدة الهرم، وهي الأضعف، لكنها قوية لكونها جزء من كتلته، وهي قوية ومخيفة لمن هم خارجه.

وكما في بنية كل السلطات الراسخة، يتحرك الأفراد المنضوون في الطبقات صعوداً وهبوطاً، تبعاً لعلاقتهم مع رأس الهرم/ النظام، الذي يمكن لتغيره أن يحدث تبدلاً في هيكلية الهرم كله، ووفقاً لهذا، فإن المقربين من حافظ الأسد، ليسوا بالضرورة مقربين من ابنه، وقد لا تحفظ العلاقة مع الأب الكرامة في زمن الابن!

وفي زمن هذا الأخير ستصعد شرائح إلى الأعلى في بداية سنوات حكمه، وستنزل هذه الشرائح بعد عشرين سنة منها، وهكذا يهبط رامي مخلوف من حصنه ليحل مكانه أبو علي خضر! وسينتهي حضور رؤساء الفروع الأمنية الذين رسخوا حكمه في مواجهة الحرس القديم (الزمرة المحيطة بالأب) وقاموا بسلسلة الجرائم الأولى ومنها قتل رفيق الحريري ليحل محلهم حفنة من المجرمين القتلة، الذين استدموا فتكاً بالسوريين في زمن الثورة.

وضمن تركيبة مثل هذه، تتداخل فيها الطوائف والمصالح، لا يمكن تخيل وجود نوع من السلام ضمن الطبقة الواحدة من طبقات الهرم!

فهمة الصعود نحو الأعلى تعني فيما تعنيه الحرب على الجبهات المنافسة خاصة وأن حمولته تتكون من اندفاع للمصلحة الشخصية، وتعاظم دور الانتماء الطائفي، وسيطرة على المقدرات، من تملك الأعمال الخاصة، والنهش في مقدرات الدولة المالية، والترزق من المال العام، وصولاً إلى اعتبار الحصول على وظائف القطاع العام حقاً مكتسباً، لا يستطيع أحدٌ منعه.

وضمن هذا الفضاء ستندلع الحروب بين الأفراد ضمن الكتلة المتراصة، وفي زمن اضطراب سيطرة رأس الهرم، سيصبح التنافس بين هؤلاء حاداً، مع سعار هائل للبحث عن مثالب الآخرين، لطحنهم أمام الرئيس بوصفهم خونة أو ضالين على الأقل! وكلما برز المؤيد المتفاني في اكتشافاته التي تهدف إلى حماية النظام، ستزداد حظوته، وستفتح الأبواب أمام مصالحه!

وهنا، لابد سيطرح السؤال: أي مؤيدٍ مخبرٍ كتب التقرير بهالة الجرف؟ وفي أي من مراكز القوى طُبخ قرار اعتقالها؟!