من كازاخستان إلى أوكرانيا.. الأدوار والأهداف الروسية والأميركية

2022.01.16 | 06:20 دمشق

kazakhistan.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعلنت وزارة الدفاع الروسية، يوم أمس السبت، انسحاب كامل قواتها العاملة ضمن منظمة معاهدة الأمن الجماعي من كازاخستان، والذي بدأته يوم الخميس الفائت، بعد تدخلها تحت راية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، لإعادة الاستقرار للجمهورية السوفياتية السابقة التي هزتها الأسبوع الماضي أعمال عنف لم تشهدها إطلاقا منذ استقلالها عام 1991. وأسفرت عن عشرات القتلى ومئات الجرحى ودفعت بالسلطات إلى طلب نشر قوات حفظ السلام بقيادة روسيا وأدت إلى توقيف 12 ألف شخص على الأقل.

تتعرض منطقة وسط آسيا لتغيّرات سياسية متلاحقة ابتداء من أفغانستان والانسحاب الأميركي وصولاً إلى نذر الحرب والتوتّر الحاصل في أوكرانيا بين روسيا الاتحادية من جهة والقوى الغربية ممثلة بالولايات المتحدة ودول الناتو من جهة أخرى، وما سبقها من الحرب الأذربيجانية الأرمينية.

ولا يمكن فهم الموقف الروسي وقراءة المشهد وتقدير الموقف تجاه ما يحصل في وسط آسيا. بشكل منفصل عن تطورات متزامنة، ومواقف الدول الفاعلة والمتأثرة تجاه قضايا المنطقة الممتدة من أوكرانيا وحتى كازاخستان، وتتبع الأحداث والمواقف والتصريحات، مع قراءة في الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك.

قراءة في الأحداث

لا بد من النظر في مواقف كل من الولايات المتحدة الأميركية ودول حلف الناتو من جهة ومواقف روسيا الاتحادية ابتداءً ثم ربطها ببقية الملفات المحيطة في هذه المنطقة الحسّاسة:

  • اندلاع الاحتجاجات في كازاخستان بعد ارتفاعٍ في أسعار السلع والوقود، ووصولها إلى مواجهات كُبرى بين المحتجين وقوات الحكومة الكازاخستانية، ثم توسّعها بشكل كبير في فترة زمنية قياسية، ودخول عسكري سريع روسيّ إلى كازاخستان حديقة الدبلوماسية الخارجية الروسية، شاركت فيه بقيّة الدول المنضوية تحت ما يُسمى معاهدة الأمن الجماعي لدول الاتحاد السوفييتي الساقط. تأتي هذه الأحداث الاستثنائية الخطيرة في ظل أزمة اقتصادية ومالية كُبرى تعيشها دول منطقة تشهد هذا التسخين الخطير. وهنا يمكن استحضار السياسة التي ينتهجها الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان لمواجهة هذه الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي تعصف في العالم وتثير جدلا واسعا في الأوساط الداخلية والإقليمية والدولية.
  • أحداث أوكرانيا المتلاحقة، والحشودات العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية، وتحرك الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو باتجاه الشرق وتحرّكات توسّعية للناتو باتجاه روسيا، وإطلاق التهديدات والتحذيرات الشديدة لأي تحركات روسية باتجاه أوكرانيا، والمطالبة بإنهاء الحشودات الروسية على الحدود الشرقية لأوكرانيا.
  • المتغيّر الأبرز في الخارطة السياسية للمنطقة، خاصّة دول الـ (ستان) الذي تجلّى بالانسحاب الأميركي من أفغانستان ووصول حركة طالبان إلى الحكم، مما يفتح الخيارات أمام هذه الدول ذات الغالبية المسلمة لتكون قادرة على التحرر من التبعية الروسية المطلقة وهندسة علاقاتها باستقلالية مستفيدة من التغيرات السياسية التي تحصل في المنطقة. وخاصّة المجلس الذي تقوده تركيا للدول الناطقة باللغات التركيّة، الذي اجتمع مؤخرا بعد اندلاع الاحتجاجات في كازاخستان، ثم التصريحات التركية حولها، التي استفزّت الروس بشكل كبير، فقد أعربت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قبل يومين عن أمل موسكو في أن تتفادى أنقرة الإدلاء بتصريحات غير مدروسة حول كازاخستان، وألا تحاول "الصيد في الماء العكر".
  • ومن أذربيجان حرب "كاراباخ" التي استطاع التحالف الأذربيجاني التركيّ أن يحقق فيه نصراً مهمّا ـ وإن لم يكتمل ـ فتح الباب واسعا أمام تأثير جغرافيا سياسية إقليمية تقودها تركيا باتجاه الشرق من خلال تأسيس مجلس الدول الناطقة باللغة التركية. وهذا يفتح الخيارات أمام دول الـ (ستان) لإحداث توازن في العلاقة مع المحيط والتحرّر من التبعية الروسية.
  • قضيّة الغاز في شرق المتوسّط التي ما تزال تغلي تحت صفيح ساخن، فالطلعات الجوّية التركية فوق الأجواء اليونانية وصلت إلى العشرات، ثم اعتراض سلاح الجو اليوناني لأحد الطائرات التركية المحلّقة. يأتي ذلك في ظل صراعات تلاحقت منذ سنوات في محاولة لإقصاء تركيا عن حصّتها من الغاز في شرق المتوسّط، مما استدعى التدّخل التركيّ العاجل في ليبيا وتوقيع المعاهدة مع حكومة الوفاق ـ في حينه ـ لترسيم لحدود البحرية بين البلدين، التي جاءت نتيجة تحركات كل من فرنسا واليونان ومصر وإيطاليا لترسيم الحدود مع تجاهل المصالح التركية. كل ذلك يترافق مع زيادة في عدد القواعد العسكرية الأمريكية في الأرخبيل اليونانيّ لتصل إلى 6 قواعد عسكرية، ودخول الناتو بقطعه البحرية العسكرية إلى البحر الأسود. وقد صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا بأن اليونان تحوّلت بأكملها إلى قاعدة عسكرية أميركية. وهذا يطرح تساؤلا حول وجاهة بعض الأطروحات التي تتحدث عن انسحاب أمريكيّ من المنطقة. ويبدو أن أميركا ستبقى حاضرة بقوّة وفق السياسة الخارجية الأمريكية المعهودة مع تغيير في أدوار الدول والتحالفات والاستراتيجيات المتبعة وفق المتغيّرات التي تتسارع نحو نظام عالميّ جديد يتم تأسيسه.
  • ثم الملف النووي الإيراني الذي بدأ يتصدّر الأخبار لفترة طويلة وما يزال ضمن قائمة الأخبار الرئيسة، وتدخّلها المشبوه في قضايا المنطقة العربية، وتراجع وانقسام عربي حاد تجاه مجمل قضايا الشرق الأوسط، سواء القضية الفلسطينية والموقف من الكيان الصهيونيّ، واستمرار الثورات رغم انحسارها بشكل كبير جدا، خاصّة في الساحة السورية (ذات الساحل الأهم في قضيّة غاز شرق المتوسّط) مع التدخل الروسي الذي حصل بتفاهم أميركي وتيسير إيراني لمنع سقوط النظام السوري أمام مدّ الثورة السورية، ثم الانقلاب في تركيا وما تبعه من سقوط حلب عام 2016 وإجبار الثورة السورية على مسار أستانا ثم سوتشي، وتحوّله إلى أداة لتمدد روسي إيراني، وتهجير الشعب من عدة مناطق باتجاه الشمال، وحصيلة عدد القتلى تصل وفق التقديرات الثورية والشعبية إلى المليون، ومئات الآلاف من الأسرى والمفقودين. والتهجير والنزوح الذي نال أكثر من نصف الشعب السوريّ في أكبر أزمة إنسانية منذ عقود.

واشنطن وصناعة الاستقرار الاستراتيجي

كل ما سبق ذكره من تحركات للولايات المتحدة الأميركية والدبلوماسية الدولية ممثلة بدول مجلس الأمن والدول الإقليميّة الكبيرة في المنطقة، يمكن تفسيره في ظلّ المواجهة الكبرى التي أعلنت عنها الإدارة الأميركية تجاه الصعود الصيني الذي بات يشكل تهديدا كبيرا للغرب.

ويشمل ذلك قضايا التجارة الدولية خاصة البحرية، وحرية الملاحة البحرية التجارية في المحيط الهادئ من سواحل الولايات المتحدة الأميركية وصولا إلى المحيط الهندي وحتى سواحل أفريقيا والشرق الأوسط.

ومسائل تتعلق بالأمن السيبراني وطبيعة الانتقال العالمي باتجاه الثورة الصناعية الثالثة فالرابعة بشكل متسارع، خاصة أن الصين بدأت تتقدم بشكل كبير للتفوق على كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى احتواء الاقتصاد الصيني المرعب الذي يجتاح العالم كلّه بمشروع الحزام والطريق، والسياسة المالية الاقتصادية لحكومة الصين الشعبية.

وهنا يبرز التحرّك الأميركي الاستراتيجي من خلال إنشاء تحالف (AUKUS) وتوسعته بإطلاق حوار (QUAD) مع اليابان والهند في تحركات متسارعة بشكل كبير تهدف إلى حصار الصين من البحر واحتوائها.

الدور الروسي.. برود أميركي تجاه تحركات موسكو

لا يبدو أن روسيا تشكل بالنسبة لأميركا إلا تفصيلا جزئيا في هذه الخارطة المعقدة من الصراع الدولي، وذلك بالنظر إلى حجم التعاون والتنسيق الأميركي الروسي في العقدين الأخيرين.

وجاء لافتاً إعلان المخابرات الروسية يوم أمس السبت اعتقال مجموعة من الهاكرز الروس من جماعة REvil والتي تتهمها الولايات المتحدة بشن هجمات إلكترونية على مؤسسات وشركات أمريكية، ولاقى ذلك ترحيبا من واشنطن.

فرغم كل التسخين الذي تشهده المنطقة، إلا أن عدة تحركات روسية قوبلت بردات فعل ضعيفة تتسم بالهدوء من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ومن ذلك بيع منظومات الدفاع الروسية الجوية لتركيا، وإن حصلت بعض العقوبات الأميركية إلا أن التعاون الأميركي التركي تجاوز ذلك سريعا رغم المواجهات الإعلامية.

ثم مؤخرا بيع روسيا المنظومة إلى الهند (الحليف الغربي)، وقد تم تسليم الصفقة مؤخرا. بالإضافة إلى لقاءات إماراتية روسية من أجل تحديث منظومات دفاع روسية الصنع. وكذلك المحادثات الروسية الأميركية لفتح قاعدة عسكرية أميركية في دول الاتحاد السوفييتي السابق شمال أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي.

كما أن بوتين يشعر بخطر الصعود الصينيّ الذي بات يشكل تهديدا لروسيا الاتحادية القيصرية ذات التوجّه المسيحي الأرثوذوكسي، وانتهاج روسيا سياسة خارجيّة مرتبطة بالنظرية السياسية الرابعة لألكسندر دوغين ذات التوجّه الأوراسيّ. ومما يلفت النظر تصريح وزير الخارجية الأمريكي بلينكن الأخير بقوله: "الحل الدبلوماسي هو ما سنمضي فيه مع روسيا خلال حوار الاستقرار الاستراتيجي الأسبوع المقبل" مما يؤكّد أن الولايات المتحدة تضغط على روسيا من أجل اتفاقات للاستقرار الاستراتيجيّ في منطقة شرق الكرة الأرضيّة، ثم هندسة نظام عالمي جديد وفق المصالح الغربية.

يأتي هذا في ظل إدارة أميركية لأدوار الدول الصاعدة في آسيا (روسيا ـ تركيا ـ الصين ـ الهند ـ السعودية ـ إيران ـ باكستان) وانتهاج دبلوماسية أميركية جديدة مع استلام الرئيس جون بايدن للإدارة مطلع عام 2021.

تمارس الولايات المتحدة الأميركية ضغوطا على جميع هذه الدول لإنزالهم على اتفاقيات تتعلق بخطة أميركية غربية لاستقرار العالم وفق المنظومة الدولية الجديدة قيد التأسيس.

تقدير الموقف

باستقراء وتحليل جميع ما سبق، يمكن القول إن التنافس الروسي الأميركي في هذه المنطقة غير متكافئ، ومن مصلحة الرّوس أن ينزلوا على اتفاقيات استراتيجية بعيدة لتأسيس الاستقرار الاستراتيجي الذي تحدث عنه بلينكن في السابع من الشهر الجاري.

ويمكن تفسير الأحداث التي تحصل في هذه المنطقة الممتدة من كازاخستان شرقا وحتى أوكرانيا غربا للضغط على روسيا من أجل اتفاقيات استراتيجيّة لقاء تمدد وتوسّع الدبلوماسية والنفوذ الروسي في وسط آسيا، والضغط على إيران في الملف النوويّ.

ويبدو أنه من مصلحة واشنطن فتح حوار ومفاوضات أميركية تركية روسية حول هذا الاستقرار الاستراتيجي. وكل ما سبق يهدف لإدخال جميع الدول المؤثرة في الخطة الغربية لاستهداف الصين من خلال تغيير جذري في الجغرافيا السياسية غرب الصين وإخضاعها للتفاوض مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وانطلاق نظام عالمي جديد يهندسه الغرب وهدفه الرئيس احتواء وإخضاع المارد الصيني لمشروع الاستقرار الاستراتيجيّ القادم.

كلمات مفتاحية