من قيد الطاعة إلى عبث الفوضى

2021.02.14 | 00:00 دمشق

tnzyl.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل القفزة التكنولوجية الهائلة، هيمن الإعلام الموجه على الخطاب العام، ففرض سيطرته على المعلومة، وغذى ببرامجه الحوارية الصراعات على طريقة فيصل القاسم في الاتجاه المعاكس، فالهدف ليس النقاش بل استثارة الضيفين الكريمين! 

رياح التغيير لم تهب كما تشتهي الأنظمة الشمولية. بظهور منصات وسائل التواصل الاجتماعي كمساحة حرة، أخلت بالمعادلة الصارمة وأتاحت فرصة طرح أفكار ما كان أحد يجرؤ على الاقتراب منها. سجناء الرأي الواحد والزعيم الواحد انطلقوا دون ضوابط في فضاء لا يمنع ولا يحذف ولا يتدخل..

سوى أن تلك النعمة تكاد تنقلب إلى نقمة.

إن الانفعال والتشبث بالرأي كأسلوب ليس طفرة جينية تخص شعوب هذه المنطقة، لكنه نتيجة حتمية لثقافة مجتمعية مبنية على الطاعة

جولة سريعة عبر صفحات الفيس بوك أو توتير تكفي لنلاحظ كم الجدالات العقيمة وانتهاءها بالخصام والحذف والبلوك، فهدفها ليس الوصول إلى قاسم مشترك بين الآراء، بل هي فرصة للتشبث بصحتها، وكأن الذي يناقش يملك مطلق الحقيقة، كما أن الكتابة بأسماء وهمية زادت من حدة الاستفزاز، وعدم منطقية الحوار، والأمثلة كثيرة منها التهجم والتنمر يصب على رأس النسويات في كل قضية مناصرة لحقوق المرأة، والحروب الافتراضية التي لم يسلم منها حتى الموتى كما حدث عقب وفاة المخرج حاتم علي.

إن الانفعال والتشبث بالرأي كأسلوب ليس طفرة جينية تخص شعوب هذه المنطقة، لكنه نتيجة حتمية لثقافة مجتمعية مبنية على الطاعة، كرستها تربيتنا الصارمة التي تجعل الإذعان علامة تهذيب، ومناهجنا التعليمية التلقينية منذ الصفوف الأولى وحتى تخرجنا من الجامعات، وأنظمتنا القامعة حيث تغيب حرية الرأي، وفرص الحوار خوفاً من استفزاز السلطة.

ساهم كل ما سبق في جهلنا بطريقة طرح آرائنا من جهة، وتقبل المختلف عنها من جهة أخرى، حيث يتطرف سلوكنا باتجاه التشدد، ليس لما يخالف مواقفنا السياسية والعقائدية فحسب، بل في التفاصيل الأصغر بكثير من ذلك، فأية فكرة تتعرض للهجوم، وأي انتقاد يتحول إلى موقف متعصب، واستقطابات وتجييش، لتنقلب المساجلات إلى تجريح شخصي، ونبش استفزازي في السلوكيات.

الفوضى المهيمنة على مساحة الحرية المستجدة، تتعدى الخصومات الشخصية، لتؤثر على كيانات المعارضة من منظمات وهيئات ومؤسسات

عند هذا الحد يُفسد اختلاف الرأي القضية والود معاً، ويجعل من لا يرغب دخول المتاهة مسجوناً ضمن مساحتين ضيقتين، إما المديح المفرط الذي يرى الخطأ ولا يصوبه، أو التزام الصمت، وهو صمت سلبي عدمي يجمّد الفعل والمشاركة والحوار الصحي.

الفوضى المهيمنة على مساحة الحرية المستجدة، تتعدى الخصومات الشخصية، لتؤثر على كيانات المعارضة من منظمات وهيئات ومؤسسات، كما حدث في وقت سابق في رابطة الأدباء السوريين، ولاحقاً في رابطة الصحفيين، إضافة إلى أمثلة كثيرة يعرفها أغلبنا، فما إن تبدأ شرارة الخلاف حتى يصبح الحل البداية من الصفر! كأن القمع الذي مارسته أنظمتنا الشمولية يعيد إنتاج نفسه، ويظهر كديكتاتور صغير تطول أظافره لينهش كل من لا يشبهنا ولا يرضينا.

لا يعني هذا أن نكف عن الاختلاف، ونتحسر على أيام السيطرة والرقابة وعصا القيادة الحكيمة، على العكس تماماً، فالنقد وتعدد الآراء أدوات مهمة للبناء والتطور والمحاسبة، أما السيئ فهو طريقتنا الخاطئة في إدارة الخلاف والاستفادة منه.   

إن تقبل النقد والنقد الذاتي أعلى درجات الثقة بالنفس، وإذا كانت السنوات العشر الماضية هي مرحلة تأسيسية لتعلم نزاهة الاختلاف، فإن الوقت ربما قد حان لنُحسن التصرف ونحصد النتائج.